“مؤتمر البارتي- 14”.. تحولات محتدمة من منزل ببغداد إلى تحديات الجبال والسلطة
تتجه الانظار الى اقليم كوردستان مع انعقاد المؤتمر الـ14 للحزب الديمقراطي الكوردستاني (البارتي)، وهو الاول منذ 12 عاماً في مرحلة مهمة من تاريخ الاقليم والعراق، في وقت يموج العالم بالتحولات والأزمات والتحديات.
وبالنظر الى العديد من الوقائع الحالية، فإن مؤتمر “البارتي” المقرر في مدينة دهوك، لن يكون مؤتمراً حزبياً بالمعنى السياسي، وانما مع تحول الحزب الذي نشأ في العام 1946، في ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى لاعب أساسي في معادلات العراق، وارتباطه بعلاقات اقليمية ودولية استخدمها على مر العقود الماضية في محاولة تحصين المصالح الكوردية وحمايتها.
ومنذ مرحلة الزعيم التاريخي المؤسس الملا مصطفى بارزاني وصولا الى الزعيم الحالي مسعود بارزاني، خاض “البارتي” عبر عواصف وأمواج التحديات، من أزمات وحروب وصراعات، جعلته بعيون الناخبين والمناصرين له، رائداً في الحياة السياسية والنضالية، وهو الحزب المتبني لشعار “التجديد – العدالة – التعايش”.
وبمقدور الحزب، بحسب المراقبين، أن يختصر الصورة المجملة لما أنجزه بالقول انه ساهم في تحويل حلم ملايين الكورد، من فكرة إلى حقيقة بمتناول اليد، برغم أحلك الظروف والمصاعب.
والان، يجتمع 800 مندوب للحزب في المؤتمر الأول للحزب منذ العام 2010، للبحث في التحديات وبلورة الرؤى للمستقبل، بعد تأجيل لمرتين منذ ذلك الوقت، بعدما طغى تهديدان لم يكن يتوقعهما أحد: عصابات داعش ووباء كورونا.
وكان “البارتي” أجرى في آب/ أغسطس الماضي انتخابات لأعضائه الذين يشاركون الآن في مؤتمر دهوك، وشارك وقتها نحو 600 ألف ممن يحق لهم التصويت في اختيار المندوبين ال800 وبينهم نساء تبلغ نسبتهن 25%.
وسيكون المؤتمر أمام تحدي الالتزام بتحدي شعاره “التجديد – العدالة – التعايش” برغم مرور 76 عاماً عليه، وهي فترة زمنية تبدو طويلة، لكنها تشير أيضاً الى حيوية الحزب الذي تمكن مثلا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في اكتوبر/ تشرين الاول 2021، من الحصول على 31 مقعداً برلمانياً، معززاً صورته بأنه الحزب الكوردي الأكبر على المستويين الإقليمي والاتحادي.
ومعلوم أن الحزب في بدايته، كان يحمل اسم “الحزب الديمقراطي الكوردستاني- العراق”، لكن المؤتمر الثالث للحزب في مدينة كركوك العام 1953، قرر اعتماد التسمية الحالية.
لكن التحديات تطرح ما هو أكثر مما يتعلق بالتسمية، منذ أيام الملا مصطفى بارزاني الذي خاض المراحل الأولى من النضال الكوردي، بالانخراط في طموح “جمهورية كوردستان الديمقراطي- مهاباد” في العام 1945 ثم إجهاضها، ومرحلة المنفى السوفياتي، وتأسيس الحزب في 16 آب العام 1946، والتقارب المؤقت مع حكم الرئيس عبدالكريم قاسم فيما بعد العام 1958، ثم تحول النظام في بغداد الى الخيار العسكري ضد الملا مصطفى بارزاني.
وكان على الحزب الديمقراطي الكوردستاني مجدداً التعامل مع الوقائع المستجدة والمشاركة بفاعلية في المبادرة الكوردية الشهيرة في نيسان/ ابريل العام 1946، من أجل البحث عن اسس للمصالحة والتقارب مع حكم الرئيس العراقي الثاني عبدالسلام عارف، ومحاولة ضمان حقوق الكورد ثقافيا والمشاركة في الحياة السياسية، وهي جهود ظلت متعثرة إلى أن أثمر النضال الكوردي، وبدور كبير لـ”البارتي”، اتفاقية العام 1970 التي منحت الكورد حكماً ذاتياً.
كان “البارتي” قد عقد حتى هذا التاريخ، عدة مؤتمرات له، فبعد المؤتمر الأول المنعقد في بغداد في 16 آب/ أغسطس 1946 في منزل بمنطقة باب الشيخ ببغداد، والمؤتمر الثاني في بغداد ايضا في آذار/ مارس العام 1951، والمؤتمر الثالث في كركوك في يناير/ كانون الثاني 1953، ثم في منزل كاكه زياد في بغداد مجددا العام 1959 وبإشراف الملا مصطفى بارزاني الذي كان قد عاد من منفاه الاختياري في الاتحاد السوفياتي.
وبعد المؤتمر الخامس للحزب في بغداد في أيار/ مايو 1960، يعتقد ان عبدالكريم قاسم حاول بعدها بشهور قليلة، وتحديداً في تشرين الثاني/ نوفمبر 1960 التخلص من مصطفى بارزاني بالضغط من أجل استبعاده من قيادة الحزب، لكن “البارتي” واجه الضغوط ورفضها.
ثم عقد المؤتمر السادس في قلعة دزة في تموز/يوليو 1964، ثم المؤتمر السابع في كلالة في اقليم كوردستان ايضا العام 1966، وصولاً إلى المؤتمر الثامن في ناوبردان العام 1970 الذي تبعته محاولة اغتيال زعيم الحزب الملا مصطفى بارزاني العام 1971.
بعد ذلك العام، لم يدم انجاز اتفاقية الحكم الذاتي طويلا بعدما احبطته تفاهمات ما سمي ب”اتفاقية الجزائر” العام 1974 بين إيران الشاه ونائب الرئيس العراقي وقتها صدام حسين الذي للمفارقة كان هو من قبل القيادي الممثل للحكم العراقي في اتفاقية الحكم الذاتي سابقا، ليجد “البارتي” نفسه مجددا أمام تحدي نكوث الحكم في بغداد بالتزامته، والعودة إلى الاشتباك المسلح.
وكان هذا من أكثر التحديات خطورة في مسيرة الحزب، وتبعها فقدان الحزب لزعيمه التاريخي بعد وفاة الملا مصطفى بارزاني في احد مستشفيات الولايات المتحدة حيث كان يتلقى العلاج وذلك في الاول من اذار/مارس العام 1979، فانعقد المؤتمر التاسع للحزب وسط مشاعر الخسارة الفادحة في 4 تشرين الأول العام 1979 في منطقة مركور في كوردستان ايران، حيث فوض الحزبيون مسعود بارزاني أمر القيادة له كرئيس للحزب في هذه اللحظة المفصلية، وهي ثقة تم تجديدها في المؤتمر العاشر الذي عقد أيضا في منطقة مركور في العام 1989، والذي للمناسبة شهد ايضا ارتقاء نيجيرفان بارزاني في العمل الحزبي، لينال عضوية المكتب السياسي للحزب.
وكان ذلك بعد عام فقط من نهاية الحرب العراقية-الايرانية التي عصفت بالمصالح الكوردية بأقصى تجلياتها سواء من خلال الابادة الكيميائية في مارس/ اذار العام 1988 ضد مدينة حلبجة، او من خلال حملات الانفال بين عامي 1986 و1989 والتي كان الكورد ضحاياها بعشرات الآلاف.
وكان على الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وغيره من القوى الكوردية الاخرى، ان تتحمل الأعباء الجسيمة بدمويتها لتلك السنوات، إلى أن ضرب التاريخ موعدا خطيرا لـ”البارتي” بعد ذلك بشهور قليلة، وتحديدا في 2 آب/أغسطس العام 1990 عندما غزا صدام حسين الكويت، فأصيبت التوازنات الإقليمية والدولية بزلزال لم يسبق له مثل، وترك اثره الدائم على الكورد.
فبعد نهاية حرب تحرير الكويت من قبضة صدام حسين، فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حظرا جويا لحماية الكورد في الشمال (والشيعة في الجنوب) من هجمات الانتقام الجوية لصدام حسين، وهو ما عزز الحركة الكوردية من أجل تحقق الحكم الذاتي، وهو أحد مطالب “البارتي” تاريخيا، وذلك من خلال تنظيم انتخابات محلية وإنشاء برلمان تمثيلي، ما شكل عمليا قيام اقليم كوردستان.
وفي ظل هذه الأجواء والتحولات الكبرى وبما أحدثته ايضا الانتفاضة الربيعية لشعب كوردستان، عقد “البارتي” مؤتمره ال11 في مدينة اربيل العام 1993، مجددا الثقة بزعيمه مسعود بارزاني الذي كان الحزب فوضه منذ العام 1979، بحمل الامانة، الى ان شهد قيام اقليم كوردستان. تكررت الثقة ببارزاني في المؤتمر ال12 للحزب في اربيل ايضا العام 1999.
زلزال آخر سيترك أثره على مسيرة “البارتي”، وقع في العام 2003 مع بداية حرب إسقاط نظام صدام حسين وما تلاها من أحداث داخلية كبيرة، يبدو أنها كانت من بين أسباب تأخير المؤتمر ال13 للحزب حتى العام 2010 في اربيل، وهي مرحلة شهدت خوض الحزب العملية السياسية المتعددة الجوانب في بغداد فيما بعد ال2003 وصولا الى اعداد دستور جديد للعراق العام 2005، وتثبيت اقليم كوردستان دستوريا وتنظيميا وتمويليا وعسكريا، بالإضافة إلى تعزيز الانخراط الكوردي في العملية السياسية في بغداد نفسها.
وكان من المفترض ان يعقد المؤتمر ال14 في العام 2014، لكن صعود موجة الإرهاب الداعشي وتهديده المباشر للعراق وإقليم كوردستان ايضا بشكل خاص، صرف الانتباه عن السياسة الحزبية، نحو الجبهات الشاسعة حيث انخرط الحزب بفعالية في جهود التصدي والدفاع ثم التحرير، معتمدا على قواته الذاتية بداية، ومستفيدا من علاقاته الإقليمية والدولية، مع واشنطن وباريس وطهران ولندن وأنقرة وغيرها، من أجل تسخيرها للمجهود الحربي ورفد الجبهات بالمقاومين والسلاح.
وكان واضحا من أداء الحزب في التعامل مع هذا التحدي الذي يهدد الكيان الوجودي للإقليم ولمكوناته العرقية والدينية المختلفة، ان لا صوت يعلو على صوت المعركة وقتها. والان، يحل المؤتمر ال14 في دهوك، وقد انتهت انتخابات العراق الى ما انتهت إليه بعد أطول أزمة انسداد سياسي خلال نحو 20 سنة.
وبسبب ذلك، طول المدة الزمنية، وكمية التطورات والأحداث التي جرت منذ المؤتمر الأخير، وصولا الى الانفراج السياسي الجديد في بغداد، فان الكثير من الأنظار محليا واقليما ودوليا تتجه إلى ما سيدور في مؤتمر دهوك لرسم معالم المرحلة المقبلة، سواء في العلاقة مع بغداد او شؤون الاقليم الداخلية، والتحولات الاقليمية الحاصلة، وهي متعددة ومتشابكة، ولمسعود بارزاني ونائب رئيس الحزب نيجيرفان بارزاني، الكثير مما قد يقولانه خلاله.
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية