تشكيل الأقاليم في الدستور العراقي
د.نايف كوردستاني
لم تكن هناك دولة مستقلة باسم العراق تاريخيًا بل كانت هناك مدن، وأمصار، وولايات تحت حكم الأمويين، والعباسيين، والعثمانيين، إن الدولة العراقية هي دولة حديثة التكوين، وقد جاء قرار تأسيس هذا الكيان في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبموجب مؤتمر القاهرة الذي عقدته بريطانيا بالقاهرة في عام (1921) لبحث شؤون الشرق الأدنى، إذ توصل المشاركون في المؤتمر إلى قرار ينصّ على إنشاء دولة ملكية في العراق برئاسة الأمير (فيصل بن الحسين) الذي نصّب ملكًا على العراق في (23آب1921) بعد استفتاء لم يرحب به أغلب الكورد.
ولم تكن ولاية الموصل ذات الغالبية الكوردية جزءًا من كيان الدولة العراقية الحديثة، ولم تكن هناك روابط تاريخية، وجغرافية، واجتماعية بين ولاية الموصل، وولايتي (بغداد والبصرة)، وقد عارض وجهاء ولاية البصرة الانضمام إلى الدولة العراقية الحديثة، وقاموا بإرسال عريضة إلى المندوب السامي البريطاني السير (برسي كوكس) في (13حزيران 1921) أي قبل وصول الأمير (فيصل) إلى العراق بعشرة أيام طالبوا فيها بإنشاء إدارة سياسية مستقلة في البصرة!
وقدمت الحكومات الثلاثة: العراقية، والتركية، والبريطانية بيانات التركيبة القومية لولاية الموصل إلى لجنة عصبة الأمم وفقًا للتقديرات الحكومية الثلاث، فأن الكورد يشكلون الأغلبية من سكان الولاية، وبعد انتهاء التحقيق حول البيانات التركيبية القومية جاء في التقرير المرفوع إلى عصبة الأمم في (16تموز1925) أن الكورد خمسة أثمان سكان الولاية؛ ولذلك هم أهم عنصر في النزاع، وهم ليسوا أتراكًا، ولا عربًا، فهم يختلفون عن الأتراك في عاداتهم، وتقاليدهم، وأن العراق لا يمتد شمالًا إلى أبعد من منطقة حمرين.
بعد إلحاق ولاية الموصل بالعراق اكتملت رسم الخارطة السياسية للعراق لتشمل الولايات الثلاث (بغداد، والبصرة، والموصل)، ومن هذا التشكيل الجنوني بين الولايات الثلاث للعراق جاء بشكل يتلاءم مع المصالح الدولية، والرغبات السياسية للموظفين البريطانيين الذين كان لهم تأثير على مجريات الأحداث السياسية في حقبة العشرينيات من القرن الماضي.
إن الدولة العراقية بحدودها السياسية هي من صنع وزير المستعمرات البريطاني (برسي كوكس) جمع بين الحقول النفطية المتباعدة، ودمج بين المكونات (الكوردية، والسنية، والشيعية)، وبدأت المشكلات تطفو على السطح في الدولة العراقية، ولاسيما بعد أن أخذت الدولة العراقية اتجاهًا واحدًا بتهميش المكونات في العراق لاسيما الكورد إبان الحقبة الملكية، ثم الحقبة الجمهورية حتى سقوط النظام البعثي في عام (2003)، وهو الحزب الذي انفرد بالسلطة ،ثم بدأ يتحول إلى حزب استبدادي، ورئيس الجمهورية القائد الأوحد، والقومية العربية هي الوحيدة المعترفة بها في العراق، لاسيما بعد تحويل القوميات الكوردية، وبقية القوميات إلى العربية!
وبدأت مرحلة انتقالية في العراق بعد عام (2003) من دولة استبدادية (دكتاتورية) إلى دولة اتحادية فيدرالية، وقد تبنّى الدستور العراقي النظام الفيدرالي بالنسبة للأقاليم الذي صوّت عليه مكونات الشعوب العراقية في عام (2005)، والأقاليم هي وحدات سياسية في الدولة الاتحادية، وليست أقسامًا إدارية!
وقد تطرّق بنود الدستور العراقي في عام (2005) لمشروعية الأقاليم في النظام الاتحادي (الفيدرالي)، ويعدّ إقليم كوردستان هو الإقليم الوحيد المعترف به في العراق الاتحادي، علمًا أن إقليم كوردستان شكّل بعد الانتفاضة الشعبية في عام (1991) بعد طرد النظام البعثي من كوردستان، وإغلاق مقراته الحكومية، والعسكرية، والأمنية.
والاعتراف الدستوري بالأقاليم وفقًا للباب الخامس/ سلطات الأقاليم/الفصل الأول (الأقاليم) في المادة (116):”يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة ، وأقاليم ، ومحافظات لامركزية، وإدارات محلية”.
وحسب المادة (117)أولاً: يقر هذا الدستور عند نفاذه، إقليم كوردستان، وسلطاته القائمة إقليمًا اتحاديًا .
ثانيًا: يقر هذا الدستور الأقاليم الجديدة التي تؤسس وفقًا لأحكامه” .
وهنا الاعتراف بإقليم كوردستان – العراق الدستوري، فضلًا عن الاعتراف بالأقاليم الجديدة التي ستشكل، وهذا رد واضح، وصريح على من يحاول التنصّل من البنود الدستورية الثابتة، ويدّعي بأن تشكيل الأقاليم هو تقسيم للعراق!
تشريع قانون الأقاليم وفقًا للمادة (118)”يسن مجلس النواب في مدة لا تتجاوز 6 أشهر من تاريخ أول جلسة له قانونًا يحدد الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم بالأغلبية البسيطة للأعضاء الحاضرين”.
الحق في تشكيل الأقاليم اعتمادًا على المادة (119) يحق لكل محافظة، أو أكثر تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقتين :
أولًا: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم .
ثانيًا: طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم” .
بعد تشكيل الأقاليم في العراق من حق كل إقليم أن يضع له دستورًا خاصًا به حسب المادة (120)”يقوم الإقليم بوضع دستور له يحدد هيكل سلطات الإقليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحيات على أن لا يتعارض مع هذا الدستور”.
من حق الأقاليم ممارسة سلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، حسب المادة (121) أولًا: “لسلطات الأقاليم الحق في ممارسة السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية وفقًا لأحكام هذا الدستور باستثناء ما ورد فيه من اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية “.
من حق سلطة الأقاليم أيضًا تعديل تطبيق القوانين الاتحادية وفقًا للمادة (121) ثانيًا: “يحق لسلطة الإقليم تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الإقليم، في حالة وجود تناقض، أو تعارض بين القانون الاتحادي، وقانون الإقليم بخصوص مسألةٍ لا تدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية “.
ومن صلاحيات إدارة الإقليم إنشاء، وتنظيم قوى الأمن الداخلي، وحرس الإقليم حسب المادة (121) خامسًا: “تختص حكومة الإقليم بكل ما تتطلبه إدارة الإقليم، وبوجه خاص إنشاء، وتنظيم قوى الأمن الداخلي للإقليم كالشرطة، والأمن، وحرس الإقليم”.
من حقوق الأقاليم في الدستور العراقي الحصة العادلة من الإيرادات الاتحادية حسب المادة (121) ثالثًا: “تخصص للأقاليم، والمحافظات حصة عادلة من الإيرادات المحصلة اتحاديًا تكفي للقيام بأعبائها، ومسؤولياتها مع الأخذ بعين الاعتبار مواردها، وحاجاتها، ونسبة السكان فيها”.
الضمانات الدستورية لحقوق الأقاليم:
نصَّ الدستور على ضمان حقوق الأقاليم بمنع تعديل الدستور إلا بموافقتها، وعن طريق إنشاء هيئتين مستقلتين هما:
أولًا: الحصانة الدستورية لصلاحيات الأقاليم ضد التعديل الدستوري ضمن المادة (126) رابعًا: “لا يجوز إجراء أي تعديل على مواد الدستور من شأنه أن ينتقص من صلاحيات الأقاليم التي لا تكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية إلا بموافقة السلطة التشريعية في الإقليم المعني، وموافقة أغلبية سكانه باستفتاء عام”.
ثانيًا: هيئة ضمان حقوق الأقاليم حسب المادة (105)”تؤسس هيئة عامة لضمان حقوق الأقاليم، والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في المشاركة العادلة في إدارة مؤسسات الدولة الاتحادية المختلفة، والبعثات، والزمالات الدراسية، والوفود، والمؤتمرات الإقليمية، والدولية، وتتكون من ممثلي الحكومة الاتحادية، والأقاليم، والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، وتنظم بقانون”.
ومن الضمانات الدستورية للأقاليم هيئة تخصيص الواردات الاتحادية وفقًا للمادة (106)”تؤسس بقانون هيئة عامة لمراقبة تخصيص الواردات الاتحادية، وتتكون الهيئة من خبراء الحكومة الاتحادية، والأقاليم، والمحافظات، وممثلين عنها، وتضطلع بالمسؤوليات الآتية :
أولًا: التحقق من عدالة توزيع المنح، والمساعدات، والقروض الدولية بموجب استحقاق الأقاليم، والمحافظات غير المنتظمة في إقليم .
ثانيًا: التحقق من الاستخدام الأمثل للموارد المالية الاتحادية، واقتسامها .
ثالثًا: ضمان الشفافية، والعدالة عند تخصيص الأموال لحكومات الأقاليم، أو المحافظات غير المنتظمة في إقليم وفقًا للنسب المقررة “.
ومن اختصاصات الأقاليم في الدستور العراقي حسب المادة (115)”كل ما لم ينصّ عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم، والمحافظات غير المنتظمة في إقليم، والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية، والأقاليم تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم، والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في حالة الخلاف بينهما “.
عجز مجلس النواب العراقي عن تشريع قانون النفط والغاز بسبب الضغوطات السياسية من أحزاب السلطة العراقية، فضلًا عن الضغوطات الإقليمية الخارجية، وبما بأن إقليم كوردستان هو كيان دستوري، ومعترف به في الدستور العراقي، فمن حقه تشريع القوانين، ولاسيما قانون النفط والغاز لإقليم كوردستان- العراق المرقم (28) لسنة (2007).
و من المؤسف جدًا أن نجد هناك أنصاف من الجهلة، والأمّيين، وأنصاف الساسة، والإعلاميين، أو ما يسمى بالمحللين السياسيين الذين يظهرون على الشاشات الفضائية ينكرون وجود إقليم كوردستان، ويدّعون عدم ذكره في الدستور العراقي، وهذا الأمر نابع من جهلهم من جهة، وحقدهم من جهة أخرى، وأقل وصف بحق هؤلاء أنهم شرذمة من المرتزقة، فقد ذكر الدستور العراقي النافذ مصطلح (إقليم كوردستان) ثلاث مرات في ثلاث مواد دستورية، وهي:
الأول: الاعتراف الدستوري به كما في المادة (117) أولًا: “يقر هذا الدستور عند نفاذه إقليم كوردستان، وسلطاته القائمة إقليمًا اتحاديًا”.
الثاني: إقرار قوانينه، وعقوده منذ عام (1992م) حسب المادة (141)”يستمر العمل بالقوانين التي تم تشريعها في إقليم كردستان منذ عام 1992، وتعدّ القرارات المتخذة من حكومة إقليم كوردستان ـ بما فيها قرارات المحاكم، والعقود ـ نافذة المفعول ما لم يتم تعديلها، أو الغاؤها حسب قوانين إقليم كوردستان من قبل الجهة المختصة فيها، وما لم تكن مخالفة لهذا الدستور”.
الثالث: عالج موضوع لغاته الرسمية: يوجب الدستور استعمال اللغتين العربية، والكوردية في المؤسسات الاتحادية، والرسمية في إقليم كوردستان بموجب المادة (4) رابعًا:” تستعمل المؤسسات الاتحادية، والمؤسسات الرسمية في إقليم كوردستان اللغتين”.
من بعد عام (2003) برزت مطالبات كثيرة على الساحة العراقية بتشكيل الأقاليم على غرار (إقليم كوردستان)، وتجربته الناجحة التي أحرجت الأحزاب السياسية العراقية أمام جماهيرهم لاسيما بعد ثورة العمران، والازدهار، وتطور البنى التحتية في إقليم كوردستان.
ومن ثَمَّ كانت هناك مطالبات من (المجلس الإسلامي الأعلى) بعد التصويت على الدستور العراقي تؤكّد ضرورة إنشاء (إقليم الوسط والجنوب)، أو ما يعرف بإقليم (سومر) الذي يتكون من (9) محافظات، وهو إقليم كبير يتكون من ثلاثة أقاليم، وهي محافظة البصرة، وذي قار، وميسان في إقليم واحد، وعاصمته البصرة، وضمّ واسط، والمثنى، والقادسية في إقليم عاصمته واسط، والآخر يضم بابل، وكربلاء، والنجف، وعاصمته النجف.
ومن ثَمَّ ظهرت دعوات تشكيل إقليم (البصرة) من النائب السابق عن محافظة البصرة وائل عبد اللطيف، ومن ثَمَّ طالبت الجبهة التركمانية بتشكيل إقليم خاص بالتركمان.
ومن ثَمَّ مطالبات بتشكيل (إقليم نينوى الدستوري)، و(الإقليم الغربي)، و(الإقليم العربي)، و(الإقليم السُّنّي)، و(إقليم آشور- العراق) الخاص بالمسيحيين.
وهناك حراك قوي من القوى السياسية السنية لتشكيل الإقليم في المنطقة الغربية، ويتكون هذا الإقليم من محافظات: (نينوى، وصلاح الدين، والأنبار) لاسيما بعد احتلال تنظيم داعش الإرهابي ثلث المحافظات العراقية، وهروب الجيش العراقي من تلك المحافظات، فضلًا عن عمليات الخطف، والقتل على الهوية، وتهجير أهلها قسرًا من محافظاتهم، وفرض عمليات الأتاوات، وفتح المكاتب الاقتصادية التابعة للميليشيات التي تأخذ مبالغ شهرية من المحلات التجارية والمعاملات…إلخ، وتطبيق الأجندات الإقليمية في المنطقة.
إنشاء الأقاليم في العراق حق دستوري مشروع للحافظ على الهوية القومية، والدينية، والمذهبية، والعيش بكرامة، واحترام ، في إقليم ينعم بالأمن، ويعمل على تطوير البنى التحتية، وازدهارها بعيدًا عن عمليات الخطف، والقتل على الهوية.
بُني العراق على أساس غير صحيح في بداية تشكيله بجمع المتناقضات، وغياب الهوية الوطنية الجامعة للشعوب العراقية، فأن تشكيل الأقاليم هي الحل الأمثل في العراق.
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية