الاستفراد ببيادق ايران… هل سيتوسع الصراع في المنطقة ؟
أنس شيخ مظهر
قبل الدخول في صلب الموضوع علينا توضيح نقطة مهمة ينبغي الانتياه اليها قبل تفسير التوجهات الامريكية من اي قضية سياسية خارجية كانت ام داخلية…
فمنذ تاسيس الولايات المتحدة ولغاية يومنا هذا نشهد بين الحين والاخر تباينا واضحا بين توجهات الادارات الامريكية وتوجهات المؤسسات فيها، فالادارات الامريكية تتخذ قراراتها عادة بما ينسجم مع توجهات الشرائح المؤثرة في الانتخابات، وان كانت على حساب مصالح الامن القومي الامريكي، فترتكب احيانا ما يمكن تسميتها بشطحات سياسية تقف ورائها مصالح شخصية وحزبية … وقد ادرك المشرع الامريكي ” الاباء المؤسسون” تلك الحالة فوضعوا لهذه الادارات مصدات مؤسساتية تصوب تلك الشطحات حال حدوثها وفق ما تمليه مصالح الامن القومي الامريكي … وشهدنا ذلك في مواقف كثيرة اختلفت فيها توجهات الادارات الامريكية مع توجهات مؤسساتها، وبالطبع كان القرار الاخير دائما للمؤسسات وليس للادارات … اذا يجب علينا التميز بين توجهات الادارات الامريكية وبين توجهات مراكز القرار فيها .
………………..
لا يمكن انكار ان النظام الايراني الحالي قد ابدع في التعامل مع امريكا والغرب خلال ما يقارب النصف قرن من حكمه . فلدى ايران مجساتها التي تستقريء من خلالها وبشكل دقيق تباين المصالح الامريكية مع المصالح الاوروبية في المنطقة وكذلك تباينهما مع المصالح الاسرائيلية، وتستغلها بما يصب في مصالحها الاقليمية والدولية . وقد نجحت في اللعب على التناقضات الدولية والاقليمية، من خلال ممارسة سياسة العصا احيانا والجزرة احيانا اخرى رغم التحديات التي تواجهها، فتمكنت من بناء ترسانة عسكرية ضخمة توشك ان تضيف اليها السلاح النووي، وتشكيل مليشيات ترتبط بها ارتباطا عقائديا لحماية مصالحها وان تناقضت مع المصالح الوطنية للدول التي تنتمي اليها تلك المليشيات… فحزب الله والحوثيين والفصائل العراقية تتحرك حسب المصالح الايرانية حتى وان تناقضت مع المصالح الوطنية للدول التي تنتمي اليها .
ورغم ثيوقراطية هذا النظام الا انه تحرك بشكل برغماتي افضل من انظمة اخرى كثيرة في الشرق الاوسط .. ويمكن استخلاص ذلك بمقارنة التجربة الايرانية مع التجربة العراقية ثمانينات القرن الماضي، فرغم ان العراق كان حينها منفتحا على كل دول العالم ويتمتع بعلاقات طبيعية مع المجتمع الدولي والغرب، الا انه فشل في طموحه للتحول الى قوة اقليمية وسقط في اول مطب سياسي بحربه مع ايران تلاه مطبات سياسية متتالية ذهب ضحيتها في نهاية المطاف عام 2003، بينما نجحت ايران في عبور حقول الغام كثيرة حاول الغرب وامريكا وضعها في طريق مشروعها في التحول الى قوة اقليمية وما تزال ماضية فيه .
هذا الاداء الايراني قابله اداء يمكن وصفه بالباهت والمشتت من قبل الادارات المتعاقبة في اوروبا وامريكا، فرغم ان الغرب قد استعمر الشرق الاوسط لعقود من الزمن ويدرك مزاج شعوبها وتوجهات ساستها ويمتلك دراسات وبحوث كثيرة حول المتغيرات فيها، ورغم انه يعتبرعراب تشكيل الكثير من دولها، ويتمتع بعلاقات متميزة مع حكوماتها… الا ان تعامله مع ملفاتها يتسم منذ ما يقارب الربع قرن بالكثير من عدم الدراية يصل احيانا لحد السذاجة . ويحاول الكثير من المراقبين ” خاصة اصحاب نظرية المؤامرة والمؤمنين بفوقية الغرب” تفسير كل اخطاء سياسة الغرب في منطقتنا بانها مقصوده وتكتيكية يتبناها لتصب في النهاية لصالحه، الا ان ما تؤكده مسار الاحداث ان الغرب بما فيه امريكا ترتكب اخطاء سياسية قاتلة في التعامل مع الملفات السياسية في المنطقة، تفضي بالنتيجة الى تبعات سلبية ليس على شعوب المنطقة وحدها بل وعلى مصالح الغرب نفسه، وقد يكون مرد ذلك لنوعية الساسة الذين يقودون المشهد السياسي في الاونة الاخيرة في اوروبا وامريكا، وطغيان المصالح الحزبية والشخصية على المصالح الستراتيجية لدولهم، ليس فيما يتعلق بملفات منطقتنا فحسب بل حتى في ملفات بلدانهم الداخلية.
كشفت حرب غزة وردود افعال ما يسمى بمحور المقاومة ازائها ان ايران اصبحت تشكل خطرا حقيقيا على مصالح امريكا والغرب في المنطقة، وتهديدا وجوديا على حليفتها الستراتيجية اسرائيل ، وان اذرعها باتت تشكل خطرا على مصالح الدول الحليفة لها في المنطقة .وخروج حماس من حرب غزة دون خسائر، وتهدئة التصعيد بين حزب الله واسرائيل، وابقاء الحوثيين متحكمين باليمن والفصائل المسلحة العراقية متحكمة بالعراق، كل ذلك سيعتبر نصرا حقيقيا لايران واذرعها ينقلها الى مساحة اخرى تجعلها متحكمة في مسارات السياسية في المنطقة.. رغم ذلك فاننا نلاحظ ان الادارات في امريكا والغرب تضغط باتجاه عدم توسيع الصراع في غزة وتهدئة التوتر فيها .
تهديد المصالح الامريكية في الشرق الاوسط
قد لا يكون تحول ايران الى دولة نووية يشكل هاجسا عند امريكا مثلما يشكل عند اسرائيل وبعض الدول العربية، بدليل انها في مفاوضات الملف النووي الايراني قد ركزت فقط على ابطاء او تاخير وصول ايران الى القنبلة النووية وليس على منعها من الحصول عليها….
وفي الحقيقة فان هناك نقطتان في الملف النووي الايراني علينا ملاحظتهما : –
الاول ..قد تكون البراغماتية الايرانية المعروفة مكنتها من اعطاء امريكا تطمينات جدية من ان ملفها النووي لن يشكل خطرا على مصالحها ومصالح حليفتها اسرائيل، فالمهم عند ايران هو ان تصبح قوة اقليمية كبرى تحمي نفسها من تحديات دول المنطقة ازاء مشروعها التوسعي فيها .
الثاني …رغم التصريحات الامريكية المتكررة برفضها حصول ايران على السلاح النووي، لكن يبدو ان امتلاك ايران للسلاح النووي لا يشكل هاجسا كبيرا عندها، بل يمكنها توظيف هذا المتغير ليصب في اتجاه مبدا التوازنات الذي تعتمدها في المنطقة، فوجود قوة نووية شيعية في ايران تقابلها قوة نووية سنية في باكستان تستنزفان بعضهما دون ان يتمكن اي طرف من حسم الصراع لصالحه، يصب في صالح السياسات الامريكية، ولذلك فهي لا ترى النووي الايراني تطورا خطيرا عليها التصدي له مثلما يراه اخرون.
والسؤال هنا…ما هي الخطوط الحمراء الامريكية في المنطقة وهل تجاوزتها ايران ؟
يمكن ايجاز الخطوط الحمراء الامريكية في نقطتين : –
الاول… الحفاظ على مصالحها في المنطقة.
الثاني.. الحفاظ على حلفائها في المنطقة .
ان توضيح الواضحات من الفاضحات، فالدلائل كلها تشير الى ان ايران اصبحت تهديدا حقيقيا لكل حلفاء امريكا في المنطقة من خلال :-
*/ دعمها لحماس في غزة.
*/ دعمها لحزب الله المهيمن على قرار الدولة اللبنانية.
*/ دعمها للحوثيين الذين يشكلون خطرا على امن دول الخليج وباتوا اليوم يهددون العالم من خلال تهديدهم للملاحة الدولية.
*/ دعمها للمليشيات العراقية التي تهدد المصالح الامريكية في العراق وتهدد الدول العربية المحيطة بالعراق .
*/ وقد تمادت الاذرع الايرانية في تحديها بعد ان اصبحت تستهدف القواعد الامريكية نفسها سواء في العراق او سوريا وقتلت جنودا فيها.
ان التهديدات الحالية للمصالح الامريكية كانت كافية فيما مضى لتشن امريكا على ضوئها حربا شرسة ضد اي جهة متورطة في ذلك … غير ان ردود افعال ادارة بايدن على كل هذه التهديدات لا تتجاوز لغاية الان مبدا الضربة مقابل الضربة او التعادل الايجابي (1-1) “كما يقال في عالم الرياضة”، بل وتشدد على ضرورة انهاء الحرب في اقصر مدة ممكنة، فبايدن يريد خوض الانتخابات القادمة في جو دولي وداخلي هاديء بعيدا عن ردود افعال شعبية قد تؤثر على نتائجها.
لكن امريكا ” وكما قلنا انفا” هي دولة مؤسسات تهيمن على القرار النهائي لامريكا بعيدا عن مصالح الاحزاب والافراد، وهي من تهذب في الكثير من الاحيان شطحات الادارات الامريكية، خاصة اذا ما استشعرت خطرا حقيقيا على الامن القومي الامريكي، وشهدنا ذلك في اكثر من قرار سياسي في عهد الرئيسين اوباما وترامب.. فحتى لو تعاملت الادارة الامريكية مع تطورات المنطقة ب”رومانسية” شديدة حسب مصالحها فان مراكز القرار الامريكي هي من بيدها القرار الاخير.
فهل التطورات الحالية تهدد مستقبل النفوذ الامريكي في المنطقة ؟
مثلما ذكرنا في مناسبات سابقة فان المنطقة بعد حرب غزة لن تكون كما قبلها ….فحتى لو انتهت الحرب بمغادرة حماس غزة ” وهو اقصى ما يمكن ان تسفر عنه هذه الحرب “، فان خروج ايران واذرعها الباقية منها دون خسائر سيعتبر نصرا حقيقيا لها تحولها من قوة اقليمية “تطمح” للسيطرة على المنطقة الى قوة اقليمية “حقيقية” تسيطر عليها .. وهو ما سينتج عنه التداعيات التالية :-
*/ سيعطي ذلك انطباعا لدى الدول المهددة من قبل ايران بان امريكا ليست الحليف المناسب لحمايتها من التهديدات المحدقة بها، مما يؤدي بها الى فك تحالفاتها معها، خاصة بوجود قوى عالمية جديدة كالصين وروسيا تطمح للتواجد في مناطق النفوذ الامريكي الحالية… وهو ما يمثل تطورا خطيربالنسبة لامريكا.
*/ سيطرة ايرانية كاملة على العراق وسوريا ولبنان واليمن، تتشكل على ضوئها ما يمكن تسميتها ب “دول المقاومة” بعد ان كانت فصائل متفرقة تسمى ” محور المقاومة”.
*/ ستشكل “دول المقاومة” هذه هلالا شيعيا يطوق دولا مثل الاردن ودول الخليج يتم تصدير تجربة المليشيات اليها كما تم تصديرها سابقا الى العراق ولبنان واليمن .. ولن يقف تاثير الهلال الشيعي عند هذه الدول فقط بل ستصل تاثيراته لدول اخرى مثل تركيا ومصر.
*/ سيطرة كاملة على الملاحة البحرية في المنطقة، وكذلك على مشاريع الطرق البرية المزمع تشكيلها لربط الشرق باوروبا، مما سيعطي ايران ميزة السيطرة على الاقتصاد العالمي بشكل كامل.
*/ هناك نقطة جديرة بالملاحظة وهي ان خروج محور المقاومة دون خسائر من حرب غزة سيعطيها دافعا لاستنساخ فكرة تشكيل المليشيات في دول اخرى تريد التاثير فيها .. كل حسب ظروفها السياسية . وقد تكون امريكا هدفها التالي لنقل تلك التجربة اليها “وان كان بشكل مغاير لما فعلته في الشرق الاوسط” خاصة وان الظروف الداخلية فيها قد تساعد على نجاح تلك التجربة، من قبيل رغبة بعض الولايات للانفكاك من الولايات المتحدة، وهي بالطبع مهمة صعبة التنفيذ على ايران لوحدها، لكن بالتنسيق مع الصين وروسيا قد تجعل منها مهمة ممكنة التحقيق، خاصة وان روسيا تتطلع للرد بالمثل على امريكا في تفكيكها للاتحاد السوفيتي سابقا.
استنادا لما سبق نستنتج ان ايران قد تخطت خطوط امريكا الحمراء في حيثيات حرب غزة . ويبدو ان مراكز القرار في امريكا تعي هذا الخطر وقد اتخذت فكرة المواجهة مع ايران “او” اذرعها منذ فترة، بعد ان ابدت اسرائيل ودول خليجية لاكثر من مرة رفضها محاولات الادارات الامريكية استيعاب النظام الايراني.. فتوجهت دول الخليج ” السعودية والامارات” الى المعسكر الشرقي وعقدت اتفاقيات شراكة معها، ودعت الرئيس الصيني لحضور مؤتمر القمة الخليجي قبل اكثر من عام، كل ذلك شكل نقطة انقلاب في الموقف الامريكي في تغير مواقفها تجاه ايران … فقد كانت الخطوات الخليجية تلك رسائل مباشرة لامريكا بانها ممتعضة من النهج الامريكي المرن حيال الخطر الايراني،وبانها تمتلك خيارات اخرى غير امريكية يمكن اللجوء اليها في حال استمرار امريكا في نهجها هذا .
عقب المواقف الخليجية هذه تمت زيارات مكوكية لمسؤولين امريكان الى الخليج واسرائيل، وشهدت المنطقة خطوات سياسية مركبة بعيدة المدى تمثلت بتوجه سعودي اماراتي نحو تطبيع العلاقات مع ايران والانفتاح عليها، وتهدئة الوضع السياسي في اليمن والعراق “وان كان التوجه الى التهدئة في البلدين على حساب الحلفاء المحليين لامريكا بشكل مؤقت ” . هذه التحركات الخليجية حدثت بتنسيق عالي مع مراكز القرار الامريكية كان الهدف منها ابعاد دول المنطقة عن اي استهداف حال حدوث مواجهة في المنطقة مع ايران “او” اذرعها …ونشهد حاليا نتائج هذا التوجه في ان دول الخليج بمناى عن اي تهديد ايراني او مليشياوي رغم اشتعال جبهات كثيرة في المنطقة.
يبدو ان مراكز القرار الامريكي ارتات ان تكون المواجهة مع محور المقاومة بالانفراد باذرعه الواحد تلو الاخر …ففي الوقت الذي كانت اسرائيل تتوغل في مناطق غزة، سارعت امريكا بارسال بوارجها الى البحر المتوسط، واستمرت في التاكيد على عدم رغبتها بتوسيع الصراع خارج غزة، وبذلك ضيقت مساحة ردود افعال حزب الله وابقتها في نطاق قواعد الاشتباك، وعندما دخل الحوثيين الحرب، تولت امريكا مهمة الرد عليهم كي تتفرغ اسرائيل لحربها ضد حماس …
الان وبعد تحييد قوة حماس الى حد كبير وتولي التحالف مهمة المواجهة مع الحوثيين فان السيناريوهات القادمة للحرب تتجه الى الاحتماليات التالية : –
* عقد هدنة مع حماس في غزة بغض النضر عن تفاصيلها .
* يليه قيام الجيش اليمني الشرعي بالدخول في حرب برية ضد الحوثيين تزامنا مع القصف الجوي الامريكي على مواقعهم وتحييد الحوثي بشكل كبير .
* اشتعال الحرب بين اسرائيل وحزب الله على الحدود اللبنانية الاسرائيلية .
اذا اخذنا هذا السيناريو بنظر الاعتبارمع وجود البوارج الامريكية في المنطقة فان اي قرار ايراني بالدخول في مواجهة مع امريكا سيكون اشبه بالانتحار خاصة بعد تحييد حماس والحوثي، لذلك فانها ستتخذ خيار الصمت امام مشهد قص اذرعها لتفقد ميزة قتال اعدائها خارج حدودها وتنكفيء على نفسها داخليا..مبقية قرار اتخاذ المواجهة معها الى الطرف الاخر ” الامريكي الاسرائيلي الخليجي”…اما المليشيات العراقية فهي من اضعف حلقات محور المقاومة في المنطقة ويمكن تشبيهها بضيف شرف على المشهد ينتهي دوره بمجرد ان يسمع المخرج يقول” فركش”
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية