العراق الى أين؟
شاكر الجبوري
لم تنسحب أميركا من قواعدها في اليابان والمانيا بعد سبعين عاماً على الحرب العالمية الثانية، ولم تترك الصناعات لتنافسها على الهيمنة العسكرية، ومع ذلك تتحكم بالقرار العراقي معادلة النصف خطوة وغشاوة العيون الرسمية في توازن علاقات المحاور الكبيرة، في زمان مختلف عن ردود أفعال العواطف، حيث ظلت الدبابة الأميركية تتحرك بحرية مطلقة في رسم خطوط التماس البديلة في العراق بلا زعل ايراني، وسيبقى الحال من بعضه رغم تصاعد نيران المواجهة خارج مصالح الطرفين.
يسكتون عن قصف في أربيل أو الانبار وبغداد، لكنهم لا يتسابقون لرمي الصداقات بحجر، مثلما يفعله بعض السياسيين مع شركاء الأمس من الكورد بشكل خاص، وهو ما يثير غصة في حديث صديق يتحسر على التغير في النفوس وتناسي الفضل بين زمانين لا تفصل بينهما عنصرية الاقليم.
واذا كنت مع الشطر الأخير من رأي صديقي العاتب على الزمن، فان عدم نضوج الفكر السياسي لادارة الدولة في العراق هو تجميع غير مبرمج لتفاصيل الشيطان في أولويات الحكم، التي أنهكها التشدد القومي والتطرف الديني على مختلف المستويات، فعراق المواطنة لا يستوعب المقاومة باتجاه واحد، مثلما يحتاج الى مصالح اقليمية ودولية متوازنة، لا يكون فيها العرب في الصف الثالث، حتى لو تضايق البعض من حدود التكامل بين العراق ومحيطه العربي التقليدي.
قرار الدولة العراقية مختلف عن اجتهادات أو التزامات الأحزاب العلمانية منها أو الاسلامية، والتي فقدت بوصلة التفكير الواقعي لتضيع معها قدرة العراقيين على الاستيعاب، حيث لا يستوعبون تحويل الخلاف مع شركائهم الكورد الى قضية مالية أو معادلة اقتصادية، بنفس المستوى من عدم تجربتهم لاسلوب حكم الاسلام السياسي المتقاطع مع ليبرالية القرار في ايران وتركيا.
الأوروبيون لم يركبوا قطار التطور الا بعد التخلص من نفوذ الكنيسة، ونحن لن ننهض بدعوات التشدد والغلو، لأن جرح الأمس القريب لم يندمل بعد. لا عيب أن يكون البعض معتزاً بعلاقاته مع ايران أو تركيا، لكن ليس من المنطقي هذه العدائية المفاجئة للقوات الأميركية، وكأنها لم تكن بوابة الجميع للوضع الحالي، في دعامة ثنائية لأزمة السلطة في العراق.
الايرانيون الأكثر قدرة على الصبر ونصف الخطوة بالاتجاه الصحيح، لذلك لم يصطدموا مع الاميركان بالقرب من حدودهم، وليسوا راغبين بذلك طالما المصالح العليا في مكانها الصحيح، لكن كيف تُقنع البعض بأن منظومة الحكم العالمي غير معنية بمغامرة الانتحار العاطفي أو حتى العقائدي.
ولكي يستوعب الجميع المعادلة المرشحة للبقاء في العراق خلال وقت ليس بالقصير، فلن يكون انسحاب القوات الأميركية مدرجاً على أولويات سيد البيت الأبيض، ولن يُغامر مسؤول أميركي بتكرار تجربتي 2011 في العراق والانسحاب الفوضوي من أفغانستان في آب 2021، لأن بارود العالم موجود في العراق وليس في ايران أو تركيا.
لا توجد رمال متحركة في العراق بل عدم قدرة على قراءة المتغيرات الجيوسياسية، ولن يكون آخرها عدم المواجهة الأميركية الايرانية في المنطقة، فواشنطن تحسب خطواتها جيداً وطهران تعرف حدود مناورتها المسموح بها، فليس كل خطاب التصعيد الاعلامي موقفاً ملزماً، مثلما يكون يسيراً التخلص من الأدوات البديلة، والتي لن يكون آخرها تغيير بوصلة القصف بين باكستان وايران، والعقلانية العالية في حسابات حزب الله في لبنان.
ليس أمام العراق متسعاً طويلاً من الوقت ليكون أما دولة محايدة دفعت ما يكفي من المآسي، أو بوابة مقاومة لا تستوعبها ظروف المنطقة، ويبدو أن الخيار الأول سيكون حاضراً في المرحلة المقبلة، بعد أن استوعب كثيرون أن القوة الحقيقية هي التي تصنع الحدث، وتفرض مراكز النفوذ على الأرض، حتى لو جاءت العبرة متأخرة.
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية