فوزي الاتروشي/ وكـيل وزارة الثقافة
تزدحم محكمة النشر والاعلام بالقضايا ، واكثرها كيدية وانتقامية تحاول التصيد في المياه العكرة، واقل القليل منها ينطبق عليه وصف القذف والشتم. ان هذا قرع لأجراس الخطر على صعيد الكلمة التي لا تتنفس الا الحرية ولا تبدع الا في الفضاءات اللامتناهية لحق التعبيرالذي يتجاوز الدساتير الوطنية الى النسيج القانوني الدولي العابر للدول والقارات ، فهذا الحق جزء من الحضارة الحالية.
كيف نقول :ان في البدء كانت الكلمة اذا كان البعض مازال يفكر ان يزرع حولها الاسلاك الشائكة ، وكيف نشاطر الشاعر القديم قوله: ان خير جليس في الزمان كتاب ، اذا كان ثمة من مازال يحلم بالكتاب المعلب بالقوالب الجاهزة والشعارات الحزبية، وتكرار واجترار الاحكام الوعظية التلقينية في سياق التحريم والتكفير والتخويف والارتداد، لمجرد ان الكتاب مثل العصفور لا يقبل العيش في قفص حتى لو كان واسعاً او ذهبياً ولا يرتاح الا الى السير عبر المسافات الطويلة لاقتناص الفكرة والجملة غير المألوفة المؤمنة بالتجديد مع كل نهار جديد. الم يكن الشاعر الكبير الجواهري ثاقب البصيرة حين قال:
لثورة الفكر تاريخ يحدثنا
بان الف مسيح دونه صلبا
الم يكن (سقراط) محقا حين قبل تجرع السم رافضا التنازل عما كتبه وقاله في المجتمع اليوناني القديم متنبئا بان التاريخ سيدين خصومه وستتم تبرئته من التهم الموجهة اليه ، وهذا ما حصل العام الماضي حين برأته المحكمة اليونانية بعد الاف السنين من رحيله.
الا يكفي ان تاريخنا حافل الى حد التخمة بضحايا القمع الفكري من الادباء والفنانين والفقهاء والأئمة الذين رفضوا ان يكونوا من وعاظ السلاطين ودفعوا ارواحهم من اجل ان نعيش نحن على ضفاف التحرر بعيدا عن هواجس الخوف والتردد والرعب الذي يرافق كل هجوم على الكلمة المكتوبة التي كان لها فضل اخراج البشرية من حقبة اللاتدوين الشفهي الى تدوين التاريخ والفعل البشري في كل المجالات مما ساعدنا على البناء عليه لبلورة الحضارة الراهنة.
لو امسك اي واحد منا القلم لاعداد قائمة بضحايا الفكر والكلمة عبر تاريخ المنطقة لأصابه الهول واصيب بصدمة صاعقة لكثرة وضخامة السجل الذي سيعد بالاسماء التي كان مصيرها التعذيب والسجن والقمع والقتل بابشع الطرق وحرق نتاجهم الذي لو بقي في مكتباتنا لكنا اليوم حققنا اكبر قدر من الثراء المعرفي والفكري.
بالعودة لاصل الموضوع نقول لكل السياسيين والبرلمانيين ان محكمة النشر والاعلام في كل الدول المتحضرة محكومة بمعايير قانونية وادارية واضحة ولا يجوز اقحامها في كل شاردة وواردة من الكلام الذي يكتب في الصحف او يقال في الفضائيات ، فالكاتب وكتاب الاعمدة الصحفية والمحللين السياسيين والمبدعين في الشعر والقصة والرواية والمقال وكل مجالات الفن، لابد ان يكون لهم اوسع فضاء للابداع وضمانات قانونية بانهم لن يحاكموا والا فقد المنجز الاعلامي والثقافي مغزاه وتأثيره، بل ان المبدع قد يلجأ الى التمويه والتغطية لتمرير الفكرة، او الى المهادنة والرياء وهذا ما يفقد العمل صدقيته.
ورب سائل يتساءل ولكن ماذا بشأن القذف والشتم ونقول انه خط احمر في كل الدول وارتكاب فعل القذف جريمة يعاقب عليها القانون، ولكن الاختلاف في مدى التوسع او التضييق في تكييف الفعل الجرمي لكي لا يجري التعسف في استعمال الحق ، والمطلوب هو الاجماع القانوني على تعريف محدد للقذف والشتم ضمن اشتراطات وحدود واضحة. وهذا هو الحل لعدم الوقوع في مطب تكاثر القضايا امام محكمة الاعلام والنشر ومعظمها في النهاية خاسرة، لانها كما قلنا تمس حق الانسان في التعبير.
فالنتينا
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية