الهجرة المليونية
طارق كاريزي
توضيحا لمصطلح عنوان المقال نقول بأن شعب كوردستان العراق انطلق يوم 31/آذار من عام 1991 في هجرة جماعية غير مسبوقة في التاريخ، فقد هاجر هذا الشعب بأكمله نحو الجبال والحدود الدولية مع ايران وتركيا هربا من بطش نظام صدام تاركا المدن والبلدات والمجمعات السكنية.
ولكل حادث خلفية تاريخية تمهد له. حكم نظام البعث العراق خلال الفترة 1968- 2003 بقبضة حديدية ضيَقت الخناق على الشعب العراقي. لم يكن امام العراقيين غير خيارين، اما الاذعان والخضوع لمشيئة النظام وسياساته العدائية والعدوانية والقبول بحياة قاسية فرضت على ابناء البلد تحت وطأة العنف والاكراه، او رفض الخضوع للنظام وشروط المواطنة بحسب مقاساته، وهذا يعني مواجهة تحد كبير محفوف بمخاطر عدة.
اتبع النظام العنف المفرط والاكراه كي يفرض الخضوع التام على العراقيين، ومن باب الدفاع عن شرائط الحقوق الانسانية والعيش بكرامة، تصدت الكثير من الشرائح والنخب العراقية للنظام وواجهته بشجاعة نادرة، الا ان ضريبة مواجهة نظام قمعي لا يتردد في استخدم أعتى الاساليب واشدها قساوة في معاقبة معارضيه، ستكون باهظة جدا. والكورد كانوا اشد المعارضين لنظام صدام، لذلك صب عليهم جام غضبه بمنتهى القسوة ومارس ضدهم القتل والابادة الجماعية والتهجير والترحيل والتطهير العرقي والضرب بالسلاح الكيمياوي والمقابر الجماعية، حتى وصلت الامور الى البدء بمرحلة قلع جذور هذا الشعب الاصيل وانهاء وجوده على أرض كوردستان.
الثورة الكوردستانية طالبت دوما بالعدالة والانصاف، وكان خيار الحكومات العراقية المتعاقبة هو اللجوء الى القوّة العسكرية لاخضاع الكورد عنوة وكرها. اصرار الكورد على المطالبة بالحرية واقرار الوجود، رفع من وتيرة المواجهة بين الطرفين. تعاقب الحكومات المتتالية طوال عقود من عمر الدولة العراقية، زاد من افراط الحكومة في قسوتها من حيث قمع الكورد وعدم التردد من استخدام كل وسيلة يمكن ان تقمع الكوردي وتمهد لتصفيته وهو في خندق المعارضة. وبلغ العنف المفرط في مواجهة الثورة الكوردية الذروة في عهد صدام، حيث تم مسح الريف الكوردستاني (تدمير قرابة خمسة آلاف قرية) بالكامل، علاوة على هدم العشرات من المدن والبلدات الكوردستانية وتهجير سكانها وحشر المهجرين قسرا والناجين من حملات الابادة الجماعية التي اطلق عليها الانفال في مجمعات سكنية قسرية، كي يكونوا تحت السيطرة تماما تلبية وتمهيدا لمراحل تالية من مخطط حكومي عراقي يهدف تهجير الكورد عن بكرة ابيهم من كوردستان ومن ثم احلال العرب محلهم. وتم تنفيذ هذه السياسة التي اطلقت عليها السلطات العراقية آنذاك التعريب في مناطق كوردستانية واسعة في محافظات نينوى، دهوك، اربيل، كركوك بالكامل، صلاح الدين، ديالى وواسط.
مغامرة صدام في اجتياحه الكويت عام 1990 غيَرت الكثير من معادلات المنطقة وكانت بمثابة الفخ الذي ورط فيه صدام نظامه، وبعد هزيمته امام عاصفة الصحراء، كان الجيش العراقي وقادته في منتهى التذمر واليأس للهزيمة المنكرة التي لحقت بالجيش، فاطلق جندي قذيفة من مدفع دبابته في البصرة دمرّ بها جدارية صورة للرئيس صدام، وكان ذلك بمثابة الشرارة التي اندلعت على اثرها انتفاضة الجنوب (الانتفاضة الشعبانية) في الايام الاخيرة من شهر شباط/ 1991 التي اكتسحت مناطق ومحافظات العراق بدءا من البصرة حتى أبواب بغداد، وقد وجد الكورد الفرصة سانحة للانطلاق بانتفاضتهم الكبرى بقيادة الجبهة الكوردستانية يوم 5/آذار من نفس العام، واستطاع الكورد تحرير 90% من جغرافية كوردستان بضمنها مراكز محافظات السليمانية، اربيل، دهوك واخيرا كركوك.
انتفاضة الكورد لم تجد من يساندها ويمدها بعوامل الديمومة، رافقه تسهيلات لوجستية قدمتها قوات التحالف الدولي التي طردت صدام وجيشه من الكويت، للقوات العراقية البرّية والجوية، مهدت لها اعادة السيطرة على كامل الجنوب العراقي بعد كبح المنتفضين ومن ثم توجهت القوات العراقية المسندة بحوالي الفي مصفحة وبمدفعية وطيران متمرّس عجزت عن الوقوف بوجه قوات التحالف الدولي، لكنها استطاعت كبح منتفضي كوردستان للفارق الكبير في ميزان القوى.
تراجع انتفاضة آذار الكوردستانية زرع الرعب في قلوب شعب كوردستان الذي اكتوى بنيران الانفال والضربات الكيمياوي نهاية ثمانينيات القرن الماضي، تلك الحملات التي راح ضحيتها ربع مليون كوردي بين قتيل وضحية المقابر الجماعية، ومن اجل الخلاص من بطش قوات صدام التي سبق وان مارست منتهى القسوة والعنف حد الابادة، فرّ الكوردستانيون بالكامل ونزحوا من المدن والبلدات والمجمعات القسرية نحو الجبال ومن هناك نحو الحدود العراقية مع ايران وتركيا، واشارت الاحصائيات آنذاك الى ان حوالي مليون و (700) الف مواطن كوردستاني عراقي قد عبر الحدود الايرانية و(800) الفا آخرين عبروا الحدود التركية، ومئات الآلاف الآخرين قد تقاطروا في جموع طويلة محاصرين بين جبال كوردستان ووسط وديانها وفي اجواء باردة مع هطول مستمرّ للأمطار شهد فيه الناس الكثير من الجوع والخوف.
مشاهد من هذه المأساة الانسانية تم نقلها عبر شاشة التلفزة العالمية فانطلقت التظاهرات في العديد من الدول من قبل كوردستانيي المهجر والشعوب المساندة للحرية، مما دفع دولا اعضاء دائمون في مجلس الامن الدولي الى تبني القرار 688 الذي نص على تبني المجتمع الدولي لمسألة حماية الكورد من الابادة الجماعية وتوفير منطقة آمنة لهم شمال خط العرض 36، وبذلك بدأت الاوضاع تتغير بمساندة دولية للحد من ممارسة البطش من قبل صدام ضد شعب كوردستان والحيلولة دون تكرار مآسي حملات الانفال وما نتج عنها من مقابر جماعية دفن فيها المدنيون الكورد وهم احياء.
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية