يوليو 26, 2025

Lalish Media Network

صحيفة إلكترونية يومية تصدر باشراف الهيئة العليا لمركز لالش الثقافي والاجتماعي في دهوك - كوردستان العراق

بين العواصم الأربع: نيجيرفان بارزاني.. عرّاب الحلول حين تُغلق الأبواب

بين العواصم الأربع: نيجيرفان بارزاني.. عرّاب الحلول حين تُغلق الأبواب

في لحظات الانسداد السياسي، حيث تتقاطع الأزمات الإقليمية مع تعقيدات الداخل، يبرز نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كوردستان، كأحد الأصوات القليلة الحاضرة في غرف القرار. وعلى مدى أكثر من عقدين، راكم حضوره بهدوء، من خلال محادثات خلف الأبواب المغلقة، ولقاءات معقدة لم يكن يُتوقع لها أن تنجح، لكنها غالبًا ما أثمرت تسويات حساسة.

هذا الدور لم يكن معزولًا عن التحديات؛ إذ واجه في كل محطة ضغوطًا داخلية، وتراجعًا في الثقة بالمؤسسات، واختلالًا دائمًا في العلاقة مع بغداد، فضلًا عن اضطرابات الجوار الإقليمي. وقد دفعه ذلك إلى البحث الدائم عن توازن صعب بين ضرورة الإصلاح الداخلي، والحفاظ على موقعه الخارجي كفاعل موثوق به بين القوى المتعارضة.

في أكثر من مناسبة، عبّر نيجيرفان بارزاني بوضوح عن قناعته مثلاً بأن اتخاذ موقف عدائي دائم من بغداد لا يخدم مصلحة كوردستان. هو يدرك أن الخصومة مع الحكومة الاتحادية، أو مع دول الجوار، لم تكن يومًا سببًا في بناء مصير مستقر للشعب الكوردي، بل غالبًا ما تحوّلت إلى قيد جديد يربط الحاضر بالماضي، ويمنع الخروج من دوائر الأزمات.

هذا الفهم لا يُترجم بشعارات، بل بحضور سياسي قائم على خفض التوتر لا تصعيده. وفي ملفات شائكة مثل النفط والرواتب والمناطق المتنازع عليها، حرص بارزاني على ألّا يتحوّل الخلاف إلى خصومة، ولا الخصومة إلى قطيعة.

إنها مقاربة ترى في بغداد شريكًا مُرهقًا لا خصمًا دائمًا، وفي الجوار الإقليمي معادلات لا بد من إدارتها، لا كسرها.

وسيط في عملية السلام التركية – الكوردية

قبل سنوات من أن تبدأ وسائل الإعلام بالحديث مجددًا عن احتمال إحياء عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكوردستاني، كان بارزاني قد بدأ بالفعل بتأدية دورٍ هادئ في تقريب وجهات النظر. ومع مطلع العام 2022، ومع تصاعد الحديث عن انسحاب جناح حزب العمال من الساحة المسلحة، برزت معلومات عن دور مفصلي أداه رئيس إقليم كوردستان في احتضان مفاوضات غير معلنة بين ممثلين أتراك وكورد في أربيل.

بحسب دبلوماسيين مطلعين لوكالة شفق نيوز، استضاف بارزاني جولات محادثات حساسة، حاول فيها إقناع حزب العمال بأن السلاح لم يعد أداة مقنعة، وبأن من مصلحة الشعب الكوردي في تركيا خوض معركة الحقوق من داخل النظام لا من خارجه.

هذه الجهود تكللت مؤخراً بالنجاح، عندما أعلن في أيار الماضي، الجناح المسلح لحزب العمال حلّ نفسه، في خطوة وُصفت بالتاريخية. وقد نُقل عن مصادر كوردية تركية أن هذه الخطوة لم تكن لتحدث دون “ضمانات أخلاقية وسياسية” أدى فيها نيجيرفان بارزاني دورًا مركزيًا.

“لم يكن فقط وسيطًا. لقد كان الضمانة”، هكذا وصفه مسؤول كوردي تركي سابق شارك في محادثات سابقة.

في بغداد وأربيل.. تفكيك العقد الملغّمة

بعد انتخابات 2021 العراقية، دخلت البلاد في فراغ دستوري وشلل سياسي استمر أكثر من عام. الجميع تحدّث، الجميع صرخ، لكنّ من تحرّك فعليّ كان نيجيرفان بارزاني. ففي لحظة نادرة، ظهر إلى جانب الزعيم الشيعي مقتدى الصدر ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي في مدينة النجف، فيما بدا وكأنه محاولة أخيرة لولادة حكومة عراقية من رحم انقسام وولاءات متصارعة.

ورغم أن تلك المحاولة لم تؤدِ مباشرة إلى تشكيل الحكومة، إلا أن تدخل بارزاني بحسب مسؤولين في بغداد منع انهيار التفاهمات الهشة، وخلق قاعدة للتفاوض لاحقًا، توجت بولادة الحكومة الحالية في أواخر 2022.

حتى القوى الإقليمية التي اعتادت استخدام العراق كساحة تصفية حسابات، بدأت تنظر إلى نيجيرفان بوصفه الرجل الذي يمكن الوثوق به حين تغيب الثقة.

ومع بدء العام 2025، تجددت الأزمة بين أربيل وبغداد، وهذه المرة كانت رواتب الموظفين في الإقليم هي الشرارة. تفجرت التوترات، وتلوّح قوى كوردية بالانسحاب من الحكومة الاتحادية. لكن بدلًا من مجاراة التصعيد، حمل نيجيرفان بارزاني ملف الأزمة وتوجّه بنفسه إلى بغداد، حاملاً أجندة تفاوض تضم خمسة ملفات حساسة، أبرزها صادرات النفط، والموازنة، والمناطق المتنازع عليها.

في واحدة من أطول الجلسات التي شهدها تحالف إدارة الدولة، جلس بارزاني إلى جانب رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني وزعماء القوى الشيعية، مطالبًا بإيجاد حل دائم وليس “مسكنات سياسية مؤقتة”. وقال لأحد الزعماء الشيعة، وفق مصدر مطلع، “أنتم لا تريدون انفصال كوردستان؟ إذًا امنحونا سببًا للبقاء”.

ويؤكد المتحدث باسم رئاسة الإقليم دلشاد شهاب لوكالة شفق نيوز: أن “رئيس إقليم كوردستان يعتقد أن طريق الحوار والتفاهم هو السبيل الأمثل لحلّ الخلافات، وهذا ما أكّد عليه الرئيس بارزاني خلال عدة زيارات سابقة التقى فيها شخصيات حكومية وحزبية في بغداد. هذا النهج ينطبق على جميع الملفات العالقة، بما يضمن الالتزام بالدستور وحماية حقوق المواطنة”.

هوية لا تُختزل

يقول عضو برلمان كوردستان السابق علي حسين فيلي، الذي رافق بارزاني في محطات متعددة: إن “الرئيس نيجيرفان بارزاني ليس من السياسيين الذين يُختصرون في معسكر أو يُعرَفون بمواقف ِصدامية. خطابه البراغماتي، وسلوكه المتوازن، جعله أقرب إلى “الرجل الجسور” منه إلى زعيم الجبهات. حافظ على مسافة مكّنته من تأدية أدوار متعددةٍ دون أن يفقد ثقله السياسي أمام أي طرف”.

ويضيف: “رغم أنه لا يمتلك الكاريزما الخطابية الصاخبة، فإن حضوره السياسي مستمد من قدرته على التحرك في الظل، وبناء علاقات طويلة الأمد مع قوى إقليمية ودولية. إحدى أبرز بصماته تجلّت في تحوّل أربيل من مدينة تتعافى من الحروب، إلى مركز سياسي وسياحي واقتصادي فاعل في الإقليم والمنطقة. فقد تطورت بنيتها التحتية، وازدهر قطاع الأعمال فيها، وأصبحت وجهة آمنة لعقد اللقاءات الدبلوماسية، والمنتديات الدولية، والمناسبات السياسية الكبرى. لم يكن ذلك نتيجة تخطيط عمراني فحسب، بل تعبيرًا عن مشروع أراد به أن يجعل من أربيل نموذجًا للاستقرار الممكن وسط محيط يتآكل بفعل الأزمات”.

تجنيب الإقليم صراع الآخرين

حين اشتعلت المنطقة مؤخرًا بمواجهة مباشرة غير مسبوقة بين إيران وإسرائيل، كانت المخاوف أن يُستخدم إقليم كوردستان كساحة عبور أو رد. التقارير الإسرائيلية تحدثت عن استهداف منشآت في إيران انطلاقًا من السماء العراقية، طهران بدورها هددت بقصف لمواقع في أربيل. لكن خلف الكواليس، كان نيجيرفان بارزاني يحرّك ماكينات دبلوماسيته.

أغلق مطار حرير العسكري بالتنسيق مع التحالف الدولي، وشدّد الإجراءات الأمنية على الحدود الشرقية، بل وأرسل رسائل واضحة إلى فصائل المعارضة الإيرانية في كوردستان تطالبها بوقف أي نشاط قد يُستغل في الصراع.

وفي تقرير نادر، امتدحت وكالة تسنيم الإيرانية المقربة من الحرس الثوري خطوات بارزاني، معتبرة أن “حكمته جنّبت إيران تصعيدًا غير محسوب”.

وفي هذا السياق، يقول شهاب: “الرئيس نيجيرفان بارزاني يؤكد دائمًا على أن مصلحة العراق وإقليم كوردستان تكمن في تجنب المشاكل التي تحصل في المنطقة، وعدم جرّ العراق إلى حرب تعود بالسوء على شعبه، وبضمنه شعب إقليم كوردستان. كما نعتقد أن العراق وكوردستان ليسا جزءًا من الصراعات الإقليمية، ويجب الحفاظ على هذه الحيادية؛ وتكمن هنا مصلحتهما، وهذا ما بُني عليه تعامل الرئيس بارزاني مع الحرب الأخيرة”.

لا يحب نيجيرفان بارزاني الحديث إلى الإعلام كثيرًا، ولا يُعرف عنه إطلاق التصريحات الحادة أو الدخول في جدل علني. لكنه في كل مفصل سياسي، يعود اسمه إلى الواجهة، ليس كصانع قرار فقط، بل كـ”صانع حلول”، أو كما وصفه سياسي عراقي بارز لوكالة شفق نيوز: “رجل الإطفاء الذي لا يحمل خراطيم، بل خرائط طريق”.

“دور حاسم” في الساحة السورية

في الوقت الذي تتسارع فيه التحوّلات الإقليمية، ويبدو المشهد السوري مرشحًا لمزيد من التداخل بين القوى الفاعلة، يظهر نيجيرفان بارزاني كلاعب حذر وفعّال في آن واحد، يحاول ملء فراغ الوساطة بين أطراف متخاصمة يصعب جمعها على طاولة واحدة.

تقارير غربية، بينها موقعا Middle East Eye وAl Monitor، كشفت عن دور بارزاني في محاولة بلورة “حل وسط” يتعلق بمستقبل الكورد السوريين، في لحظة مفصلية تشهد فيها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضغوطاً متزايدة من قبل النظام السوري، الذي أمهلها شهراً واحداً للاندماج الكامل ضمن بنيته الجديدة.

لكن الأهم من ذلك هو ما ورد في تقرير “المونيتور” الأميركي الذي ربط مباشرة بين تحرّكات بارزاني وبين محاولات التقريب بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وقائد “قسد” مظلوم عبدي. التقرير كشف أن اللقاء الأخير الذي جمع المبعوث الأميركي توم براك بعبدي في عمّان في 19 تموز/يوليو كان أكثر إيجابية من لقائهما السابق في دمشق، بعد أحداث السويداء، في مؤشر على تغيّر مزاج دولي تجاه مطالب الكورد.

ونقل التقرير عن مصادر قولها إن “الجليد انكسر” وإن لهجة براك كانت أكثر ليونة، ما يُفهم في ضوء وساطة غير مباشرة يقودها بارزاني.

هذه الوساطة لم تأتِ من فراغ؛ فالعلاقة الوثيقة التي بناها رئيس إقليم كوردستان مع أردوغان على مدى سنوات، مكّنته من تأدية دور غير معلن في كبح جماح التصعيد التركي على شمال سوريا، وهو ما تُرجم فعلياً بتوقف العمليات العسكرية ضد “قسد” منذ كانون الثاني/يناير الماضي.

ولعلّ بارزاني، وفق مصادر مطلعة تحدّثت لـ”المونيتور”، يحاول اليوم إقناع واشنطن بأن الرؤية السورية المركزية التي يدفع بها الرئيس أحمد الشرع لم تعد قابلة للحياة في دولة مفككة طائفياً وعرقياً. وفي مقابل فشل مشروع الفدرلة الكامل، يبدو أن بارزاني يروّج لمعادلة وسطية تقوم على شكل من أشكال اللامركزية الموسّعة دون تسمية واضحة، محاولةً لتجنب الصدام وتوفير مظلة توافقية للكورد داخل الخارطة السورية.

ما يميز بارزاني، وفق التحليلات، ليس فقط انخراطه في هذا الملف، بل طريقته المتأنية التي تجعله يبدو كـ”حارس توازن إقليمي”، أكثر من كونه ممثلاً قومياً. بين بغداد وأنقرة وطهران وواشنطن، يحرص الرجل على ألا يُحسب على طرف دون الآخر، محاولًا إبقاء إقليم كوردستان في موقع الدولة، لا في مهبّ العواصف.

وفي لحظة تزداد فيها الحروب بالوكالة، وتتراجع فيها إمكانات التسوية، يبرز كأحد القلائل الذين لا يزال بإمكانهم الجلوس مع الجميع، وصوغ مساحات رمادية بين الخطوط الحمراء.

تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © 2021 by Lalish Media Network .   Developed by Ayman qaidi