مشاهد الموت والتصفية التي شهدها سكان قرية كوجو لا تفارق ذاكرة إدريس بشار سلو (مواليد 1970) قُتل من عائلته 6 اشخاص ومن اقاربه 20 شخصا ، وهو الناجي الوحيد من تلك المجزرة التي سُميت باسم القرية وذهب ضحيتها المئات من الايزيديين من النساء والأطفال والرجال شباباً وشيوخاً ، حين اجتاح ارهابيو داعش منطقة سنجار.
يروي سلو كيف رأى الموت بأم عينيه، يوم أفرغ أحد عناصر “داعش” 4 رصاصات في جسده.
وقال سلو: “في السادسة صباحاً من يوم 2014/8/3 سيطر داعش على قضاء سنجار وقرية كوجو، التي تبعد حوالي 21 كم عن القضاء، إلا أن حوالي 540 شخصاً، بينهم نساء وأطفال، من أصل 1740 (وهو عدد سكان القرية)، هربوا قبل ذلك بساعات باتجاه سنجار، إلا أنه تم أسر 125 منهم من قبل داعش، وأعدم 12 رجلاً في الحال”.
وأوضح قائلاً: “قبل الهروب، تلقى سكان القرية اتصالات من شيوخ عشائر المناطق العربية المحيطة، تؤكد لهم أنهم في أمان وتدعوهم للبقاء في قراهم، جازمة أن مكروهاً لن يطالهم، لكن عناصر داعش نصبوا حواجز بين قرية كوجو وسنجار، فحوصر السكان في القرية”.
وتابع: “انتظرنا في القرية مرعوبين حتى التاسعة صباحاً، عندها أتانا مسؤول داعشي يدعى سالم يونس الحمدي، وهو من عشائر المنطقة قرب قضاء سنجار. وجاء معه شيوخ من عشيرة البومتيوت، وقالوا لنا يجب عليكم رفع الرايات البيضاء، وتسليم أسلحتكم لنا ولكم الأمان. كما طلبوا منا الاتصال بأهلنا الذين صعدوا إلى جبل سنجار، لنطلب منهم النزول”.
وأضاف: “قالوا لنا ليس لنا علاقة بكم، نحن أتينا لنسقط دولة ونعلن دولة أخرى”.
“ادخلوا الإسلام وإلا”
ووصف سلو حال السكان الذين لزموا القرية وهم حوالي 1250 شخصاً، قائلاً: “كان الرعب يأكلنا. وفِي صبيحة اليوم التالي، وصل عناصر داعش وتكلموا معنا، قائلين “أنتم إخوتنا، لا تخافوا”، ثم عادوا أدراجهم دون أن يؤذوا أحداً”.
وتابع: “في يوم 2014/8/6 جاء عناصر داعش مجدداً ومعهم هذه المرة أميرهم أبو حمزة وشيوخ من عشيرة البومتيوت وقاضي الدواعش الذي يلقبونه بـ”القاضي الشرعي”، وقالوا لنا بعد أن جمعونا يجب عليكم دخول الإسلام، فرفضنا، عندها أكدوا لنا أنه إذا أسلمنا فأموالنا وأبناؤنا حرام عليهم، أما إذا لم نفعل فكل شيء مباح لهم، وأموالنا كما أبناؤنا حلال عليهم”.
كذلك أكد سلو أن “أهل القرية ورغم التهديد رفضوا عرض الدواعش، فقال لهم شيخ القرية الذي قتل فيما بعد: نحن ولدنا في العراق ونعيش فيه منذ آلاف السنين، ونتعامل مع الجميع كل على دينه”.
وتابع رواية الأحداث قائلاً: “أعطانا المسؤول الداعشي مهلة ثلاثة أيام لاتخاذ القرار. ويوم 2014/8/9 ازداد عدد عناصر داعش وحاصروا القرية من كل الجهات عدا طريق واحد يمر بهم”. وأضاف: “في نفس اليوم 2014/8/9 جاء المسؤول الداعشي ليبشرنا بأن تعليمات أمير الموصل قضت بعدم التعرض لأهل كوجو، إلا أننا كنا مرعوبين لا نعرف مصيرنا”.
يوم الكارثة المأساوية
وفجأة يغمر الدموع عيني إدريس سلو، حين قفز إلى ذاكرته ذاك اليوم المروع، فقال: “عند الساعة التاسعة والنصف من صباح 2014/8/15 ونحن جالسون قرب أحد المنازل في قرية كوجو، نترقب مصيرنا، جاءت شاحنة تحميل (شفل) وعلى متنها أعداد كبيرة جداً من الدواعش، الذين انتشروا عند كل 25 متراً من القرية، بعدها جمعونا في مدرسة القرية، حيث وضعوا النساء والأطفال (وعددهم 850 بين امرأة وطفل) في الطابق الأعلى، والرجال (وعددهم حوالي 400) في الأسفل، وأخبرونا بأنهم سينقلوننا من هنا إلى حدود الموصل، قائلين: لا تخافوا احملوا كل الأغراض التي تستطيعون حملها من أموال وذهب ومستمسكات رسمية”.
وأكد سلو أن “تطمينات الدواعش لم تتوقف، وكانوا يكررون على مسامعنا عبارات الطمأنة، وهم يصوروننا بكاميراتهم”.
وأضاف: “بعدها جاؤوا لنا بداعشي اسمه شهاب أحمد العلوان وهو مسؤول كبير ومعه مسؤول داعشي آخر من تلعفر، وراح يخبرنا بأنهم سيخرجوننا، فلماذا لا نستغل الفرصة وندخل الإسلام، لكن شيخ القرية قال لهما كيف أستطيع إقناع من عمره 70سنة بأن يغير دينه في ثلاثة أيام؟ نحن على ديننا وأنتم على دينكم”.
إدريس بشار سلو
وعندها ما كان من الرجلين إلا أن طلبا من السكان تسليم الأموال والمقتنيات الثمينة، قبل نقلهم إلى مكان آمن، فكان لهما ما أرادا.
ولفت سلو إلى أن المسؤولين قالا: “إذا لاحظنا أي شخص يحمل هاتفاً أو مالاً سنقتله”.
لحظة الإعدام
وتابع: “جلبوا السيارات وقالوا لنا سنخرجكم من القرية كمرحلة أولى، وبعدها نجلب نساءكم وأطفالكم، فركبنا، وانطلقوا بنا باتجاه طريق مخالف لما تم الاتفاق عليه، عندئذ أيقنا أنها النهاية”، مشدداً على أن “من حاول الهروب في تلك اللحظة قتل في الحال، ومن ضمنهم ابن عمي”.
وأضاف: “أنزلونا في أحد الأماكن وأمرونا بالاستلقاء، كنا نحو 400 رجل وشاب، عندها بدأ عناصر داعش بالتكبير، وراحوا يطلقون الرصاص علينا، أصبت بأربع رصاصات في أنحاء متفرقة من جسمي. وفي هذه الأثناء، جاءت الطائرات، فتشاوروا وقرروا الانتقال على الفور من المكان”.
“لم يمت”
وعن تلك اللحظة، يقول سلو، الذي كان يرتدي في حينه ثياباً رصاصية اللون: “سمعت الداعشي الذي أطلق النار علي يقول لصاحبه، إن صاحب الثوب الرصاصي لم يمت، لأن سلاحه فرغ من الرصاص، فرد صاحبه: لقد اقتربت الطائرة دعونا نغير المكان”.
وتابع: “مع اقتراب الطائرات هرب عناصر داعش مع من تبقى حياً من الرجال، فأخذوهم إلى مكان آخر حيث تم إعدامهم”.
وأوضح سلو أنه كان مع نحو 60 رجلاً ممن تم إطلاق النار عليهم في هذا المكان، وكلهم من أقاربه (أبناء عمه وإخوته وأقربائه) الذين توفوا جميعاً.
وعن تلك المجزرة قال: “كانت أشبه بكابوس، شعرت وكأنني غائب عن الوعي، أردت فقط الاستيقاظ للتأكد من أن ما جرى كان حقيقياً”.
زحفت مضرجاً بالدماء
وعند سؤاله كيف نجا، أجاب: “زحفت برجلي المكسورة وجسدي النازف المضرج بالدماء إلى بستان قريب. مكثت هناك من الساعة الـ1ظهراً حتى الساعة الـ7 مساء دون أن أفقد الوعي”.
وتابع: “شاهدت 4 أشخاص مصابين حاولوا الهروب نحو البستان، ولكن سيارة داعشية رأتهم، فقتلوا على الفور على بعد 200 متر من مكان اختبائي”.
كما أكد أن جميع الرجال قتلوا: “رأيت كل ما جرى بأم عيني، قتل جميع الرجال وحتى الشباب والأطفال بعمر الـ10سنوات”.
لحظة الخلاص والرجل المسن
وقال: “زحفت مصاباً لمدة 4 ساعات تقريباً حتى وصلت إلى إحدى القرى، لكن أهل القرية رفضوا استقبالي خوفاً من الدواعش، باستثناء رجل مسن حملني وأخذني إلى مزرعة بعيدة وأخفاني هناك. وبعد ساعة تقريباً بدأت شيئاً فشيئاً أفقد الوعي، لكنني كنت قد ضمدت جروحي بقوة لكي أمنع خروج الدم بكثرة حتى لا أموت بسرعة”.
وتابع: “استسلمت لقدري، مدركاً أن الموت طرق بابي في تلك اللحظات، لأن الوقت طال دون منقذ”.
وأضاف: “قبل أن أفقد وعيي بشكل تام، أحسست بشخص يحملني دون أن أستطيع تمييز وجهه. وبعد حوالي 24 ساعة فتحت عيني وإذا بي في بيت رجل عربي من أهل إحدى قرى العكيدات حيث عالجني وبقيت عنده لمدة 45 يوماً، حيث كان يعتني بي ويجلب لي الضمادات والطعام خفية خوفاً من داعش”.
لحظة الهروب والوصول إلى دهوك
وختم سلو حديثه قائلاً: “تعافيت بعد 45 يوماً، فطلبت من منقذي أن يخرجني ويهربني إلى إقليم كوردستان، ففعل وهربت ليلاً باتجاه دهوك”.
وأضاف متأسفاً: “الدواعش كانوا من أهل القرى المحيطة بنا، وقد فقدت 9 أفراد من عائلتي. وفي مجزرة كوجو، رأيت أختي وزوجها وابنها يقتلون أمامي، وقد ألقي بهم لاحقاً في بئر في منطقة علو عنتر”.
أما اليوم وبعد كل تلك المآسي التي شهدها، يعمل سلو في إقليم كوردستان على إنقاذ الفتيات الأيزيديات المختطفات ضمن إحدى الجمعيات، وقال: “لقد أنقذت 227 فتاة وامرأة وطفلا”.
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية