مارس 29, 2024

Lalish Media Network

صحيفة إلكترونية يومية تصدر باشراف الهيئة العليا لمركز لالش الثقافي والاجتماعي في دهوك - كوردستان العراق

عبد العزيز لازم: خالد خلات حجي.. كتابة الوجه في مغامرات اللفظ والصورة

خالد خلات حجي..  كتابة الوجه في مغامرات اللفظ والصورة
عبد العزيز لازم
يخوض الشاعر مغامرته الوجدانية بالتلاحم مع المغامرة اللفظية, فيبدأ السكب الانثيالي من موطئ العنوان مكتشفا بانبهار عال ، إن الوجه ميدان   ليس للنظر والتملي وإطلاق التعبيرات الكلامية وتغيرات الملامح والسحنة فقط بل للكتابة أيضا ، بمعنى إن الوجه قد تحول من كونه صورة أو كياناً مادياً حياً إلى حركة لفظية تنتظم في حركة أوسع تتدثر برداء لفظي تصنعه الحروف المكتوبة ، وهذا يعني أيضا أن الوجه بات مصدرا مبثاثا لمواضيع لا حصر لها
يصر الشاعر على نشر أنفاسه اللفظية على أوسع مساحة ممكنة مستخرجا صورا شديدة التنوع لتأثيث خطابه حول موضوعة ” وجه الوطن ” فيتدرج من كتابة الوجه إلى رسمه إلى ذر النور الصادر عنه و يتوصل إلى نحت الوجه ثم يبلغ ذروة يختتم بها النص بأن يجعل الوجه طيفا على الورق . هنا يتحرر الحب المختزن تجاه الوطن ، بل إن القلم يستعير تلك الحرية فيمضي في ممارسة رياضة الحب من خلال رسم الوجه المطواع والجذل ليندفع في إعادة تشكيل الحروف كي تناسب مقتضيات تلك الطاقة القادمة من مصدرين هما وجه الوطن وروح الشاعر نفسه . لكن مفردة “سأكتب وجهك” لا تكتفي بهذه المهمة فتحدد خصلتين اخريين هما : موضوع الكتابة ونوعها أيضا .ٍٍٍ هنا يبلغ الشاعر مفترقا صعبا يتطلب منه تدوين ما يعطيه الوجه فيفتح أبواب ستة ألواح . في اللوح الأول يتقدم السارد ليعلن نفسه عاشقا لكنه ” قضى نحبه ” من اجل المعشوق ” الوطن “. لا يكتفي السارد العاشق بتقديم نفسه بل بتقديم المعشوق في مساحة من الخصال تبرر عشقه ( سأكتب وجهك ../ وأحكي ملامحه لونا / كسيرا كُتم في الأعماق ..) هنا يتم التعريف بملامح المعشوق بأنه ذو لون كسير استقر في الأعماق . يتواصل الجهد الوصفي لينتقل إلى مرحلة نوعية تتعلق بمعاني الوطن بالنسبة للمسحوقين من سكانه ، فهو (.. إكسيرا فوق رؤوس الجياع / حينما يهمسني الفلك برنته / ويستيقظ الحق من غفوة /عمياء ..) وبعد أن يجتاز الشاعر غابة من الانثيالات اللفظية مستعيرا مقتنيات الطبيعة لوصف المعشوق يتسع نظره ليغطي مساحات خارج نطاق النظر لأنه يكون بصحبة المعشوق اللانهائي بمعناه , فيرتقي ذروة شاسعة البث: (وغابت غرسات عمره / وأطلالها تزهو في لب القاع / يتسلل نشيجها كبخار حاف / يطوف حضوره كل البقاع …) .
لكننا نشهد طورا صاعدا آخرا يتماهى فيه الوطن والقصيدة ليكوّنا سبيكة تتقد بالجمال .إن فرط الانثيال الشعري ينهال على الموضوع المطروح فيدخل في كينونة نسيجية مع القصيدة . أي أن القصيدة   نفسها تستعير صفات المحبوب فتتقدم هي إليه لارتجال الانتماء الوجداني لضمير الوطن.  يسعى الشاعر لتأكيد المعاني الكبرى لعمله الإبداعي ، فيجد في اللغة الملحمية طرازا خطابيا عالي الوقع لخلق الإقناع المطلوب فضلا عن إنجاز الذروات الدرامية المتوهجة لإرساء عوامل الدهشة والتعليم في أوساط العمل . فالسارد العاشق يظهر في اللوح الأول ( كعاشق قضى نحبه / من أجل وطن ) وفي الثاني هو ( مجنون / استفحل به سقمه ) وفي الثالث ( مسافر؟!/ انتحرت محطاته ) و ( مسافر؟! / تحطمت حوافره / وأضحى نهاره ليلا / والفجر نفسه )وفي الرابع ( صريعا أفنى كنوزه / كي تجتني أكف الظمأ ) أما في اللوح الخامس فيتحول إلى ( وحبيبي بالأمس كان مهدي / وبات لي اليوم قبرا ) في محاولة لفرش الجسد البشري وكامل زمانه من ولادته حتى نهايته المادية على امتداد الوطن وصولا إلى ذروة التماهي الساخن بين العاشق والمعشوق ، ولنلاحظ أن هذين يؤسسان لكينونة صارمة لكل منهما فالعاشق يذهب والمعشوق ” الوطن ” يبقى . لكن اللوح الخامس يقدم لنا وقائع تحول الوطن إلى قصيدة وبالعكس ، أي تتحقق حالة التماهي بينهما على مستوى الجمال هذه المرة، فتتحق معجزة القصيدة بشك بوح متوهج وكشف جذاب ، فالعاشق ” الشاعر” لايختفي رغم ذهابه الى القبر محققا خلودا كلكامشيا موازيا لخلود الوطن لأن القبر هو على اديم الوطن اولا ولأن القصيدة التي انتجت الجمال وهي تتغنى بمعاني الوطن في حركة ظروفة تستمد خلودها من خلود الوطن نفسه كونها ترميز مكتوب لوجهه ثانيا. فهي تأخذ شكل الاسترسال المتتالي المصرار والمفعم بالسماحة المكلومة محققة ادامة عذبة لرفقة المعشوق  (سأكتب وجهك / وأمده طيفا  على ورقي / بما قدر للقلم أن يمشي / آخذا حبره من عمري /) .
تُمتشق الصورة الشعرية باعتبارها حاضنة متوهجة للدفع بطاقة التعبير الدلالي إلى مديات قصوى من التحفز لتسخين الرواكد الوجدانية للمتلقي . الشاعر يبهرنا بعنصر التشخيص طريقا لإرساء دعائم صور شعرية  لا تستطيع الحفاظ على استقلالها داخل النص فتنفتح على الصور المجاورة لتكوين هارموني لوني وصوتي موحد ومتواصل : ( واحكي ملامحه لونا / كسيرا كُتم في الأعماق / حتى تبوح به السنونوة / المهاجرة / إذا مر صيف مثقل قفره / وأردفه خريف يبتسم حزنا / وتنطق بجناحيها في فم ذاك/ الوادي / عن مسافر ؟! انتحرت محطاته / لأجل ربيع / سقط من على صهوته). ويتعين علينا لاستكمال الرؤية ان نلاحظ ونسمع ونذوق ذلك الرنين البعيد الصادرعن الصورة نفسها ، فالقصيدة ليست من العمود ولا التفعيلة بل هي قصيدة صورة مدججة بموسيقاها المخزونة تحت عباءة المفردة الشعرية الخلابة التي تتراقص ضمن حبكة هارمونية محكمة الصنعة . اما الغناء الداخلي فيحيط بنا على امتداد البساط الملون المفروش على الاديم الأثير .وهكذا تواصل القصيدة نثر رذاذها المعطر على المحيط راسمة حركات خلابة لمغامرة مفتوحة على نفسها وعلى العالم .
* قصيدة”سأكتب وجهكَ ” للشاعر “خالد خلات حجي”  طريق الشعب العدد230 الأربعاء 24/ تموز 2013

ــــــــــــــــــ

سأكتب وجهك

خالد خلات حجي

سأكتبُ وجْهَكَ…
وانثرُ حروفَه عطراً
على جدرانِ الرواق..
حتى تُذكٌر الدنيا
لمواليدِ الهواءِ إن أقبلَتْ
في زمنٍ سَيأتي
بِعاشقٍ قضى نحبَهُ
لأجلِ وطنٍ ؟! سَما في روحِهِ
وما نَمتْ حُدودُهُ فوقَ أرضٍ
وإغتَربتْ أنفاسُهُ عن كلِّ سماءْ

سأكتبُ وجهَكَ…
وارسُمُ نجومَهُ لَحْنا
على مَسْمعِ العُشّاقْ..
حتى تهمهِمُ السروَةُ الخَرسْاء
في أيامٍ سيَطَأ وقْعُها
فوقَ جُنْحِ الغدْ
وتحكي صَمْتَها
لأجيالٍ الزُقاقْ
عن منفيِِّ أَمْسهُ؟!
جُنْ منهُ الجنونْ
وغدَتْ نبوءَتهُ سِحرا
شَفِيَتْ منها أحلامُ التعَساء
عن مجنونٍ؟!
اسْتَفحلَ بهِ سَقَمُهُ
وما سَقاهُ ضَنُّ السِنينْ
ببعضِ ترياقٍ ولا حتى دَوَاءْ

سأكتبُ وَجْهَكَ…
واحكي ملامِحَهُ لوناً
كَسِر كُتِمَ في الأعماقْ
حتى تبوحُ بهِ السِنونَوةُ المهاجرة
اذا مرَّ صيفُ مُثْقَلَُ قفْرُه
وأرْدَفَهُ خَريفَُ يبتسمُ حُزْنا
وتَنطقُ بِجناحَيْها في فمِ ذاكَ الوادي
عن مسافرٍ؟!
انْتَحرتْ مَحطّاتُهُ
لأجلِ ربيعٍ
سقطَ من على صَهْوَتِهِ
بينَ نَزَقِ شتاءٍ لا تمطرُ سَحَابَتُهُ
وطيشَُ صيفٍ أضاعَ سَنَابِلَهُ
عن مسافرٍ؟!
تَحطّمتْ حوافِرُهُ
وأضحْى نَهارُه ليلاً
والفَجْرُ نَعْشُهُ
وَحَملتْ الرمالُ موكبَ الدفْنِ
لا الموتُ موتُ
لا الدفنُ دفنُ
ولا نايٌ…. فلا عزاء؟!

سأكتب وجهَكَ..
وأذري نورَهُ طُلاّ
فوقَ رَحْبِ الآفاق..
حتى تََنثهُ الغيمةُ الناطرةُ
اكسيراً فوقَ رؤوسِ الجياعْ
حينما يَهمسُني الفلكُ بِرَنَتِهِ
ويستيقظُ الحقُّ من غفوةِ عَمْياء
وتبَجّلُ قطرةُ المطرِ
صريعاً أفنى كنوزَهُ
كي تجتني اكفُّ الظِّماء
وما رشَفَ من مائِهِ فَمُ
ولا ذاقَ من حُلوِهِ لسانْ
وغابَتْ غَرْساتُ عمرِهِ
وأطلالُها تزهو في لبَّ القاعْ
يتسللُ نَشيجُها كبخارٍ حافي
يطوفُ حضورُهُ كلَّ البقاع
فيشقُ بسنانِه فضاءَ الفضاء
سأكتبُ وَجْهَكَ… وأمرّغُ ذِكرَك
مسكاً على خدِّ كلِّ حبَّةِ تراب
وضوعاً على كفِّ كلِّ ذرةِ هواء
وأقرأُ صوتَكَ
على مسمعي
ومسمعي كهفَُ
لا تَقضُ الخفافيشُ لِيْنَ مَضْجِعي

سأكتبُ وْجَهكَ…
على جبيني
وجبيني بالأمسِ كان مهدي
وباتَ لي اليومَ قبراً
وأَيُ قبرٍ جميلٍ مثلَ قبري
وأَنْحُتُ حُلْمَك
على وجهي
ووجهي فيما مضى
كان رحمي
وأمسى لي الآن رمساً
وأي جنةٍ بكرٍ مثلَ رمسي

سأكتبُ وَجْهَكَ…
وأَمدُهُ طيفاً على ورقي
بما قٌدِرَ للقلمِ
أَن يمشي
آخذاً حِبْرَهُ من عمري
وعمري ؟! بَحْرُ لا يجاريه حبري
وحبري ؟! لَيلُ لا يفيه قلمي
وقلمي؟! سَيْلُ هائجُ
لا يَسَعَهُ أَديمَ ورقي

 

تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © 2021 by Lalish Media Network .   Developed by Ayman qaidi