أبريل 20, 2024

Lalish Media Network

صحيفة إلكترونية يومية تصدر باشراف الهيئة العليا لمركز لالش الثقافي والاجتماعي في دهوك - كوردستان العراق

أستغرق أكثر من عامين لكتابة”الريل وحمد”..مظفر النواب: القصيدة بالعامية مثل التشكيل بالطين والفصحى كالنحت بالصخر

أستغرق أكثر من عامين لكتابة”الريل وحمد”..مظفر النواب: القصيدة بالعامية مثل التشكيل بالطين والفصحى كالنحت بالصخر

في 23 أكتوبر عام 1999، احيا الشاعر مظفر النواب، الذي رحل قبل يومين، واحدة من اهم أماسيه الشعرية في أكبر قاعة (بلومزبري) وسط العاصمة البريطانية، لندن، وكان الحضور الجماهيري لافتا من حيث التنوع والعدد، حيث وقف ما يقرب من نصف الجمهور على جوانب القاعة التي ازدحمت مقاعدها بالجمهور العربي المنحدر من بلدان عدة، عراقيون ومن غير العراقيين، ليستمعوا لقصائد الشاعر النجم، النواب، ولاكثر من ساعتين خلافا للمواعيد الانجليزية المنضبطة التي كانت قد حددت زمن الامسية بساعتين.

وعلى عكس غالبية الشعراء العراقيين يتمتع النواب، المولود ببغداد عام 1934، بموهبة النجومية، اضافة الى مواهبه الابداعية المتعددة، في كتابة الشعر العربي الفصيح والعامي والرسم.و بعد مضي 45 دقيقة من القائه قصائده المكتوبة بالعربية الفصحى، طلب منه الجمهور، العراقي ومن غير العراقيين، القاء قصائده باللهجة العامية العراقية، وفي مقدمتها قصيدة”الريل وحمد”، فسال الشاعر، النواب، جمهوره فيما اذا سيفهمون شعره بالعامية العراقية، فجاء الرد موحدا بـ “نعم..وبالتأكيد”، فراح يتغني بـ “الريل وحمد”، ثم”البنفسج”، وغيرها من كنز قصائده.

ما لا يعرفه الغالبية من قراء قصائد النواب هو انه كتب قصيدته الأولى “الريل وحمد” بين عامي 1956-1958، وما تزال هذه القصيدة تشكل محطة أساسية في تاريخ الشعر الشعبي او العامي في العراق والبلدان العربية. بعد عام من كتابة”الريل وحمد” كتب النواب، باللغة العربية الفصحى، قصيدته ( قراءة في دفتر المطر) التي تعرف عليه الجمهور العربي الواسع من خلالها، ثم الحقها بملحمة شعرية حملت عنوان (وتريات ليلية) الّتي كُتبت خلال 1972-1975، مؤكدا فيها التزامه التامّ بقضايا العرب القومية السياسية والاجتماعية، وأصبح تغنيه بها سمة ظاهرة في شعره.

منشور سري

كانت قصائد النواب تتداول بين الناس بوسائل مختلفة، اذ ان أغلبها ليس مطبوعاً في ديوان موحد. وفي العراق ، كان الناس في عهود الحكم المختلفة ، وآخرها خلال النظام السابق، يتناقلون قصائده مثل منشور سري، اذ ان شعره كان ممنوعا هناك. لكن صوته وصل إليهم عبر أشرطة الكاسيت المسجلة، حيث فرضت قصائد النواب السياسية الهجائية عليه أن يكون “شاعر الغربة والضياع”، فعاش نحو 5 عقود طريدا بين المنافي العربية والأجنبية بعد ان حكم عليه بالاعدام في العراق عام 1963، متوزعا في أسفاره بين دمشق وبيروت والقاهرة وطرابلس والجزائر والخرطوم، وسلطنة عُمان، وإريتريا وإيران وكذلك فيتنام وتايلند واليونان، وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، فضلا عن فنزويلا والبرازيل وتشيلي، وعاد الى بغداد عام 2011 حيث كان قد استقبله الرئيس(الراحل) جلال طالباني في قصر السلام الرئاسي، واخيرا في امارة الشارقة بدولة الامارات العربية والتي توفي في احدى مستشفياتها.

اكثر من 40 عاما بين المنافي

الشاعر والنجومية

بعد يومين من امسيته الشعرية اللندنية، المشهودة، في 25 أكتوبر 1999، جلسنا، مظفر النواب وأنا، في احدى مقاهي منطقة (سان جونز وود) ، شمال لندن، لنتبادل الحديث حول”الريل وحمد” وغيرها من قصائده، وعن الشعر العربي وجمهوره. هنا ننشر ما لا يعرفه غالبية القراء عن قصص وآراء النواب في الشعر.

تحدثنا بداية عن امسية قاعة (بلومزبري) وازدحام الجمهور للاستماع لقصائده، وفيما اذا كانت نجومية الشاعر، او الشاعر النجم، تؤثر في الجمهور لحضور اماسيه الشعرية، خاصة وان الشعر العراقي يخلو من ظاهرة الشاعر النجم؟، قال:”عندما تعرف الناس ان هذا الشاعر تسنده تجربته وانه شاعر حقيقي لا يتلاعب بالألفاظ او (الشعوذات) كما أسميها انا، فالناس تحب سماع شعره وهذا لا علاقة له بنجومية الشاعر بل بعمق ما يطرحه الشاعر، عمق تجربته وفهمه للغة وتطويعها. أما النجومية فتظهر في فترة معينة ثم تنطفىء. النجومية لا تكفي على الأطلاق وبإمكان الناس ان تميز وتكتشف الشاعر الحقيقي عن سواه”.

مظفر النواب في احدى امسياته الشعرية

عامان لكتابة”الريل وحمد”

عن ظروف كتابته لقصيدته الاكثر شهرة”الريل وحمد” التي ما زالت مرتبطة بوجدان جمهوره، قال النواب:” الريل يعني في لهجة جنوب العراق القطار، وقد كتبت هذه القصيدة ولم يكن يدور في ذهني اني سأطبعها في يوم ما، او انها ستنتشر هكذا، وتثير كل هذا الاهتمام، كتبتها لانني شعرت بها، شكلت لي بهجة داخلية، غناء وجدانياً، وكنت اكتبها في ظروف خاصة واضعاً القلم والورقة تحت وسادتي ناهضاً ليلاً لأدون بعض المقاطع في الظلمة ثم أنام”. مضيفا :”كتبت هذه القصيدة عام 1956 وأكملتها عام 1958، وأخذها علي الشوك من دفتري ثم نشرها دون علمي، وكتب عنها الشاعر سعدي يوسف وقال ما معناه ان شعرنا العربي تسيطر عليه الهوية العالمية وهذه القصيدة زهرة نادرة في بستان شعرنا العربي، وأعتقد ان سعدي يوسف لخص قضية أساسية هي ان طبيعة هذه القصيدة لها هويتها، وهي ليست هوية الشعر العالمي او القصائد المكتوبة بالفصحى او القصيدة العامية التي كتبت في السابق، واعتبرها نقلة من القصيدة العامية التقليدية الى مناخ جديد. لقد فتحت “الريل وحمد” بمفرداتها المتداولة بين الناس أبواباً جديدة أمام القصيدة العامية. ومن العوامل التي أثرت في كتابتها ممارستي للرسم، والأجواء العائلية المشبعة بالموسيقى إذ كان والدي يعزف على العود، ووالدتي على البيانو والأجواء الكربلائية. كل هذه العوامل لعبت دورها في بناء القصيدة، وتشكيل عالم مختلف في (الريل وحمد) عن غيرها في القصائد العامية الأخرى”.

وفي رده عن سؤال: بعد قصيدة “الريل وحمد” بسنوات بدأت القصيدة العامية لديك تأخذ منحى آخر، وذات صور أكثر تعقيداً ولغة أكثر صعوبة؟ رد قائلا:”لا أبداً، حتى عندما كتبت “الريل وحمد” هناك من قال انه من غير الممكن ان يتحدث فلاح بهذه اللغة. أنا لست فلاحاً، أنا شاعر ولي عالمي وأبعادي، والشاعر ينقل عالمه، والشاعر الذي لا ينقل عالمه الخاص فهنالك كما أعتقد نقص في تجربته الشعرية”.

بين الطين..والصخر

يشبه الشاعر مظفر النواب الفرق بين كتابته للشعر العامي (الشعر الشعبي العراقي) والشعر بالعربية الفصحى، كما” التشكيل بالطين والنحت على الصخر”، قال: “للشعر العامي مزاياه وعالمه، وللشعر الفصيح ايضاً مزاياه وعالمه. ان ذلك يشبه الشغل على مادتين مختلفتين تماماً، فعندما تنحت على الصخر غير ان تشكل تكوينات بواسطة الطين”. وعندما سالته عن:أيهما الطين، وايهما الصخر؟

النواب: الكتابة بالعامية كالتشكيل بالطين

اجاب على الفور:” الطين، القصيدة العامية، كون العامية مطواعة وبعيدة عن موضوع النحو والإرث البلاغي الذي يشد شاعر الفصحى بأبعاد معينة، ثم ان اشتقاقات العامية وتراكيبها تمنح الشاعر سعة وحرية في اشتقاق أية مفردة ربما غير موجودة أساساً وتؤدي معناها”.مضيفا:” نعم العامية مثل الطين المختمر. في أول زيارة لي لأهوار جنوب العراق شعرت بذلك، الهور مائي وطيني وطبيعته إنسيابية والماء فيه يتشكل، كذلك الطين، بأشكال عدة وأيضاً يجب التعامل مع العامية بمحبة حتى يتشكل هذا الطين مثلما نريد”. مضيفا:” في القصيدة العامية أتحدث عن اوضاع العراقيين، قضايا الفلاحين مثلا. العامية أكثر ايصالاً، أكثر شجنا”.

لافتا الى انه:”في الفصحى لا يمكن ذلك، فالإشتقاقات لها قوانينها النحوية، وهذا لا يقلل من شأن الفصحى على الإطلاق، فلها طبيعتها النحوية وهو ما أسميه النحت بالصخر. فهناك نحو وقوانين لغوية وقواعد بلاغية وهيمنة تراثية. لهذا عندما يحاول شاعر الفصحى ان يكتب قصيدة حديثة يتحرر فيها من كلاسيكية اللغة تكون له معاناته، هناك من يتحدث عن تفجير اللغة، لا يوجد مثل هذا المصطلح، هذا ضحك على الذقون، هناك تطوير للغة وتعامل معها بمحبة وود لتكون قريبة وصديقة”.

وفي رده على الحملات والاتهامات المستمرة للشعر العامي، في عموم البلدان العربية، كونه مضاداً للثقافة العربية ومن عوامل تشتيت الإنجاز العربي الإبداعي ، ولكونه أيضاً محدوداً داخل البلد او المنطقة الواحدة، علق قائلا”:الإتهامات ضد العامية فيها تجن كبير. العامية لهجة لها ارتباط كبير وواضح باللغة العربية الأم، هناك اتهام على أساس ان العامية هي لغة شعوبية وهذا خطأ كبير، فاللهجة العراقية يفهمها كل العراقيين، صحيح ان هناك بعض الاختلافات في المفردات بين الشمال والجنوب او الغرب والشرق، ولكن من الممكن كتابة قصيدة عامية يفهمها كل الناس”.موضحا:” ثمة مفردات اذا كانت غير مفهومة فالمتلقي يبحث عن معناها ويفهمها، قصيدة (الريل وحمد) يقرأها ابن الموصل مثل ابن العمارة او البصرة بل حتى من خارج العراق، وفي الخليج العربي وليبيا والجزائر. لقد تفاجأت ان هناك في الجزائر من يحفظ قصيدة (الريل وحمد) ويستوعب صورها. وكون اللهجات العامية تؤذي الوحدة العربية، فهذا أمر مضحك، العامية قادرة على الإثارة والتحريك أكثر من الفصحى”.

واستطرد قائلا في هذا الموضوع:” عندما تكتب قصيدة بالعامية حول أوضاع معينة يعيشها الناس، فإنها تحركهم أكثر اذ يتداولونها ويحفظونها، ونادراً ما نجد الآن من يحفظ قصيدة فصحى حديثة، او أن تبقى بعض أبياتها بين الناس. اذاً القصيدة العامية ليست شعوبية، وهي أيضاً ليست معادية لوحدة الأمة العربية، بل هي إغناء للشعر، وفيها مادة لا تستحملها قصيدة الفصحى وفي الوقت نفسه من غير الممكن، مثلاً، ان تتناول موضوعاً فلسفياً بالعامية، واذا ما حدث ذلك فيجب عدم تحميلها اكثر من طاقتها، القصيدة، حتى الفصحى، عندما تحملها مادة فكرية اكثر من طاقتها لن تكون شعراً بل فلسفة بحتة”.

موسقة اللغة

ولكن هل هناك من الجمهور العربي، غير العراقي، من يفهم قصائد النواب المكتوبة باللهجة العامية العراقية؟، قال”: بالطبع، هناك الكثير من قصائدي العامية تطلب في أماسي شعرية من قبل ليبيين او جزائريين، مثلاً. ففي أمسية شعرية في ليبيا كنت أقرأ قصائدي المكتوبة بالفصحى وفوجئت بأحدهم يطلبي مني قصيدة عامية (مو حزن لكن حزين). وفي أمسية شعرية لي في دار الثقافات العالمية ببرلين جاءت سيدة عربية وليست عراقية وقالت انها لم تفهم أغلب المفردات لكنها ستبحث عن معنى هذه المفردات لأنها تفاعلت مع أجواء القصيدة. هذا الإنتشار ليس خطأ، العامية المصرية، او اللبنانية منتشرة في كل مكان، العامية تفتح آفاقاً جديدة حتى أمام الفصحى”.

ولكن، هل تخضع القصيدة العامية لأوزان وبحور مثلما الفصحى؟، رد قائلا:” لا، أنا بطبيعتي لا أدقق مع قصائدي، وعندما كنت طالبا في الجامعة كنت أهرب من دروس العروض في الشعر، وفي القصيدة الفصحى عندما أجد أي خلل أعود الى ذهني لأبحث عما تبقى من دروس العروض التي كنت أهرب منها في الجامعة. في العامية تسيطر علي مشاعر وصور مستمدة من داخلي، من جماليات وصور وموسيقى. أذكر مرة انني كنت في سفرة للأهوار في جنوب العراق ومرت قربنا زوارق (مشاحيف) فيها نساء. وسألنا عن اتجاه المنطقة التي كنا نبحث عنها فأجبن بلهجة فيها موسيقى، هذه الموسيقى هي شعر، والعامية التي أنا على احتكاك معها، وهي لهجة أهل العمارة جنوب العراق، فيها موسيقى خاصة، حتى في الأسماء عندما تصغر عندهم تكون (صويحب) و(جويسم) وهي صاحب وجاسم، نجد موسيقى وسهولة في النطق وهذا أثر بي بشدة”.

الشعر..ام الرواية؟

ينحاز النواب للشعر اكثر من ذهابه الى القصة والرواية، ففي رده عن سؤال فيما اذا ما يزال الشعر ديوان العرب وشاغلهم، ام ان القصة والرواية باعتبارهما فناً مدينياً احتلا الساحة الأوسع؟ قال:” اذا كان هناك ما يقلص انتشار الشعر وسطوته بين الناس فهو ليس بسبب الرواية او القصة او الفنون الادبية الأخرى، وانما طغيان الحاجة المادية والفقر الذي احتل مساحته بين الناس وهموم الوطن العربي بسبب المجاعة والقمع وانعدام الحرية والديمقراطية، اضافة الى دور الفضائيات المخرب، وهنا أتحدث بشكل عام، فتخريب اذن ورؤية المتلقي هو العامل الذي يؤثر سلباً على انتشار الشعر وتغلغله بين الناس”. موضحا:”اما كون الرواية ابنة المدينة والشعر وليد الريف او البادية فهذا غير صحيح اطلاقاً، فالشعر العربي كان في الحواضر العربية، في بغداد ودمشق ومكة المكرمة والمدينة المنورة، والشعراء العرب المهتمون كانوا في الأساس أبناء مدن وتطورهم الهائل ارتبط بتطور المدينة. فإذا كانت القصة او الرواية تستوعب تعقيدات الحياة في المدينة فالشعر ايضاً يستوعب ذلك، للشعر منحاه وللرواية منحاها كبقية الفنون الأخرى من رسم ونحت وموسيقى، وعندما يكون للشاعر صوته وتجربته الشعرية التي تسند ما يطرحه في القصيدة، وأن يكون فناناً، فالشاعر فنان ، وملّون جيد قادراً على بناء قصيدته باحكام، فالناس تنصت له وبالتالي تصل قصيدته. أنا أجد في أغلب الأماسي الشعرية ان القصيدة تصل الى الناس رغم قلة دواويني وأدهش أحياناً لكيفية وصول القصيدة الى الناس في بعض الأقطار العربية. اذاً لا يزال للشعر نفوذه وسطوته”.

 

تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © 2021 by Lalish Media Network .   Developed by Ayman qaidi