سبتمبر 11, 2024

Lalish Media Network

صحيفة إلكترونية يومية تصدر باشراف الهيئة العليا لمركز لالش الثقافي والاجتماعي في دهوك - كوردستان العراق

علي ناسو السنجاري: تلة العرسان / قصة

تلة العرسان / قصة
علي ناسو السنجاري
الثلج يصبغ لون الليل بالأبيض ..
أزقة وطرقات القرية ترتعد بردا والرياح تعزف الحانا تدخل الرعب في النفوس ..
أطلق ( علي ) صرخته الأولى وسط فرحة الأب القلق ..
والجد الذي أمضى الليلة بكاملها راكعا أمام باب السماء ينتظر حفيدا
, ولم تمضي الا دقائق معدودة حتى غطت صراخ
وعويل النساء على صراخ الطفل ..
فقط ماتت والدة الطفل , وبدأت سلسلة معاناة ( علي ) منذ تلك اللحظة حيث كانت تدور به جدته بين نساء القرية من بيت الى بيت ليشبع يوما ويجوع عشرة .
كبر ( علي ) وصار يخرج مع أطفال القرية للهو في أزقة القرية
والوديان والتلال والمزارع المحيطة بها ..
فقد كان يفضل اللعب بالقرب من تلة العرسان لعبة العرس , وكم كان يشعر بالسعادة عندما اختاره الأطفال ليمثل دور العريس مع ( ليلى ) ابنة الجيرا ن ..
الطفلة الشقراء ذات العيون الخضراء ..
الطفلة المدللة الساذجة وفستانها القروي القصير .
يقف على تلة العرسان ومن حوله أطفال القرية بكل براءتهم ليزفوا ليلى عروسا له بالهلاهل والغناء وهم ينثرون فوق روؤسهم الورق الملون ..
فيعيش أحلى ساعات حياته في حلم يتمنى أن يطول به دهرا حتى يغطي الظلام بأجنحته الناعمة الهادئة أحلام الأطفال , ويحجب عنها عين الشمس ..
تاتي أمهات الأطفال ليصطحبن أطفالهن فيصحو ( علي ) من أحلامه على حقيقة حياته المرة التي لا مفر منها فيلتفت من حوله فيجد نفسه وحيدا مع نقيق الضفاذع وصوت الصراصير , ونباح الكلاب فيلتفت من حوله فيجد نفسه وحيدا مع ثوبه المرقع حافي القدمين ..
وجرح الصباح ينزف أهات الحرمان فيصرخ كذئب مفجوع ليدوي صداها في وديان وتلال القرية ثم يتسلل الى البيت على رؤوس أصابعه كاللص يتلفت من حوله خوفا من أن تراه زوجة أبيه ..
يتسلل بهدوء وقلبه يرتعد خوفا الى مخزن المؤونة , فيسمع زوجة أبيه ..
وهي تحث أبيه عليه وتفتعل قصصا وحججا وأكاذيب ليضربه
مع انه عائد توا من الحرب بعد غياب أكثر من شهر ..
فيتعثر خوفا بأواني العشاء التي تركتها زوجة أبيهه لتغسلها أخته ( نورا ) كالعادة
فتخرج على الفور الى باب الغرفة وتصرخ * ها هو الشرير قد عاد من اللهو ..
وأين تلك الغبية الأخرى ؟.. لم تغسل الأواني .. يا الله لماذا لا تخلصني من هذا العذاب .
فتشده من شعر رأسه وتضربه حتى تتعب وتنهار قواها ,
وصراخه بين يديها يخترق حدود السماء السابعة .
مسكينة ( نورا ) فقد فتح ( علي ) عليها بابأ ..
ثم تنادي ( نورا ) المسكينة التي غلبها النعاس لشدة تعبها طوال النهار في أعمال البيت ..
فتدخل غرفة المؤونة فتراها نائمة وتمسكها من شعرها الأشقر كالأسلاك الذهبية التي طالما
كانت بنات القرية تحسدها عليه وعلى طوله وجماله ..
تظل تضربها حتى تنهار قواها مرة ثانية , وتجرها من شعرها الذي يذهب أغلبه بين أصابعها
الى المطبخ لتغسل الأواني التي لم يذوقا فيها لقمة واحدة ..
والاب ساكت لم ينبس بكلمة , ولم يترك مكانه لأنه دائما يكون بعيدا عن هذه الدنيا لا يسمع صرخاتهما فقد أخذته نشوة الخمر الى عالم الهروب من الحقيقة ..
مسكين ذلك الرجل لم يكن يعرف معنى الخمور الا بعد أن تزوج بعد وفاة زوجته ..
والمسكينة ( نورا ) لم تكن قد تجاوزت الخامسة من عمرها ..
و( علي ) بعد كل مرة تضربه فيها زوجة أبيه يأوي الى غرفة المؤونة
ويرتمي على فراشه الممزق البالي الى جانب فراش أخته ( نورا )
ويخفوا لشدة ما ناله من الألم ..
غالبا ما يصحو بعد منتصف الليل على بكاء او دمعة من عيونها تسقط على وجهه
او لمسة يديها وهي تضمد جراحه وتمزق جزءا من ثوبها أو قميصها لتربط به جرحا
في جسده وهي تذرف الدموع ..
وهو شاخص بنظره في وجهها يتأمل سحابة الحزن الواضح في عينيها .
كان يستيقظ صباحا ويرى قطعة من ثوبها مربوطة على جروحه ويحمل كتبه
ويذهب الى المدرسة دون تناول الفطور ..
وفي الطريق يفتش في حقيبته باحثا عن قطعة خبز تعودت ( نورا ) أن تخبئه له بين كتبه .
مرت السنين ولم يتغير شيء في روتين حياته اليومي ..
كان دائما الاول في نهاية كل سنة دراسية ليقضي العطلة الصيفية مع الأطفال في اللعب بين المزارع المحيطة بالقرية وعلى تلة العرسان ..
أصبح في المتوسطة وصار يعمل في العطلة الصيفية ليتمكن من شراء ملابس يرتديها في المدرسة ..
لم يعد يرى ( ليلى ) الا نادرا لقد كبرت وأصبحت فتاة جميلة ..
الكل يشير اليها أيام الاعياد والمناسبات الدينية وحفلات الزفاف الي تقام في القرية ..
كان ( علي ) يخرج أثناء الدراسة الى الطريق الذي يربط بين القرية
وعين الماء القريب من القرية ليقابل ( ليلى ) ..
وكانت لقاءاتهما قصيرة جدا لا يتعدى السلام وتبادل النظرات ,
ويسلم كل منهما رسالته الى الثاني ليقرأها في الخفاء ..
فالحب ممنوع في تقاليد مجتمعهم .
جاء اليوم الذي لم يحسب ( علي ) حسابا له عندما عاد مساء يوم الى البيت
فوجد نورا تبكي في غرفته ..
جلس بقربها * نورا .. نورا ما بك يا اختاه ما بك ؟..
وظلت نورا تبكي وهي تضمه الى صدرها الذي كان بمثابة صدر الأب والأم والدنيا ..
قالت له * لماذا يفرقون بيننا ؟..
*ومن يفرق بيننا يا نورا من ؟..
* اليوم خطبني أحد أقرباء زوجة أبينا , ووافق أبي ..
* هل تعرفينه ؟ .. هل جاء الى بيتنا ؟..
* كلا .. كلا فهو في أوربا وقد خطبني أهله .. ولم أرى سوى صورته ..
* ماشكله ؟.. كم عمره يا نورا ؟..
* انه في مثل عمر أبي أو لربما يكبره بسنين .
هكذا قضيا تلك الليلة المشؤومة بصعوبة ..
وبعد أيام قليلة سافرت نورا الى حيث المستقبل المجهول الذي ينتظرها ..
وقضى ( علي ) تلك الليلة وكأنها بألف ليلة وليلة .
دارت الأيام وصار يواجه مصاعب الحياة وحده ,
فلم يعد يجد ذلك الصدر الحنون الذي يشكو له همومه وأفراحه .
أنهى دراسته بامتياز وكأن بركان المعاناة في صدره ثار وانفجر ابداعا ..
سافر الى أخته نورا بعد ذلك ليكمل دراسته هناك في بلاد الحرية ..
بعيدا عن الحروب وأصبح يعمل الى جانب الدراسة .
كان يعاني الغربة والحنين للوطن ..
كان يقول في نفسه * ( لا أدري ما الذي يشدني الى وطني ؟ حيث الحروب والمعاناة ) ..
نعم ذكرياته في بلده لاتحمل بين طياتها سوى العذاب .
كان كلما يلجأ الى أعماقه يسمع صوتا وحيدا يناديه ..
انه صوت أجمل ذكرياته ( ليلى )وتلة العرسان وربيع القرية
والمزارع المحيطة بها وطريق عين الماء ..
وصورة ليلى لا تفارق مخيلته لحظة واحدة ..
ورسائلها مصففة أمامه حسب تواريخها , فقد حفظها عن ظهر قلب لكثرة ما يقرأءها .
هناك سمع نبأ وفاة والده بسكتة قلبية فبكاه كثيرا , وكان يبكي فيه الحنان المكتوم في قلبه ..
الحنان الذي دفن معه لأنه كان يعجز عن اظهاره خوفا من مشاكل زوجته .
تخرج بتفوق وحصل على شهادة عالية , وأصبح مهندسا زراعيا ..
وكان قد جمع مالا لا بأس به من عمله بعد الدوام وفي العطلة .
عاد علي الى وطن أجداده من أجل وطنه الصغير ( قلب ليلى ) ..
وصل القرية صباحا وقضى ساعات مع جده وفي المساء خرج الى أطراف القرية ..
فاسترجع شريط ذكرياته الحزينة , وتذكر كؤوس العذاب التي شربها .
فجأة لم يحس بنفسه الا وهو واقف فوق تلة العرسان ..
وعلى بعد أمتار عنه ضحكات الأطفال تملأ الدنيا فعاد بخياله الى الماضي سنينا ..
وكأنه يوم أمس .
لامست وجهه نسمة باردة أيقضته من غفوة الحياة ..
التفت من حوله فرأى امرأة ترتدي ملابس الحداد تفترب منه ..
خفق قلبه بقوة وكأنه كان يبشره ويهنئه بمجيئ ليلى دون أن يدري ..
اقتربت أكثر .. تمعن بها واذا هي ليلى ممسكة بيد طفل أشقر جميل .
وقفت على بعد خطوات عنه وابتسمت قائلة له * أتعرفني أم نسيتني ؟..
تنهد طويلا ونظر الى السماء ثم غسلها بنظرة ملؤها الحب
وقال لها * لو كنت نسيتك لما رأيتني أمامك الأن ..
قالت * كانت أياما جميلة ..
وكأنها تريد أن تعود به الى أيام الطفولة مرة أخرى ..
قال لها * من يكون هذا الطفل الجميل ؟..
قالت * انه ( علي ) سماه المرحوم على اسمك محبة بك ..
قال * ومن هو المرحوم ؟..
قالت * حسين ابن عمي فقد خطبني بعد أن غادرت القرية وهاجرت ..
مدت يدها ومسحت دموعها ثم تابعت * وتزوجني بعد عدة شهور من سفرك ..
ثم تنهدت طويلا وكأنها كانت غائصة تحت الماء منذ ذلك اليوم ..
وتابعت * ولم يمض على زواجنا سوى سنة واحدة حتى سمعنا نبأ استشهاده ..
وكان عمر علي وقتها شهر واحد ..
وها أنت تراني أمامك الأن شبح امرأة مزق الدهر قلبها بطعنات القدر ..
تركتها .. تركتها وهي مطلب جميع شباب القرية .
ثم انغمرت ليلى في البكاء ..
اقترب منها ومسك يدها ..
وقف بجانبها ..
وفي تلك اللحظة كانا محاطين بالأطفال الذين يتراكضون من حولهم ويغنون ..
وكأنهم يلعبون لعبة العرس ..
قال * ( ليلى أعدك بأن أبني لك قصرا هنا فوق تلة العرسان ) .

…………………………
نشرت هذه القصة في جريدة الدستور في بغداد
العدد : 452
الاثنين 21 شباط 2005

تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © 2021 by Lalish Media Network .   Developed by Ayman qaidi