ما بعد الرصاصة.. أي طريق للحركات المسلحة؟
خيري بوزاني
اعتادت الأرض أن تُروى بالبارود قبل أن تُسقى بالماء، هذا ما لمسناه دوما في الشرق الأوسط، وحيث الكلمة كثيراً ما خضعت للبندقية قبل أن تصل للميكروفون، ولكن اليوم نعيش لحظة فارقة، لحظة نهاية زمنٍ طويل من الهتاف المسلح وبداية عهد يتسلل إليه الحبر ليحل محل الرصاص.
لم يكن السلاح يسقط في هذه المنطقة حين يتعب المقاتل فقط، بل حين تتعب الفكرة نفسها، حين تشيخ القضية ويبهت وهجها، وحين تتحول الرصاصة من أداة تحرر إلى تكلفة لا تحتمل، أثمن من الحلم، وأثقل من المستقبل.
في هذه اللحظة، التي تشبه هدوء ما بعد العاصفة، تتراجع الأسماء التي لطالما ارتبطت بالجبال والأنفاق وخطابات النار. حماس لم تعد كما كانت، بل تُقاد إلى مفاوضات متشعبة، كأنها تُسحب من ميدان القتال إلى ممرات ضيقة بين الدوحة وطهران وغزة، كمن يمشي فوق جسر معلق بين الرفض والاضطرار. حزب الله، الذي كان يوماً ما “جيشاً داخل الدولة”، يقف اليوم محاطًا ببحر من السخط الشعبي اللبناني، سخط لم تخلقه الصواريخ، بل الجوع والانهيار. أما داعش، ذاك الكابوس المتوحش، فقد أصبح طيفًا شاحباً، مطارداً في رمال لا تحفظ أثراً، ولا تُنبت فكرة.
حتى الحوثيين، الذين حوّلوا الجغرافيا اليمنية إلى ساحة قتال مزمنة، وجدوا أنفسهم يُساقون إلى طاولات التفاوض تحت ظل الطائرات، لا برغبتهم، بل بواقع لم يعد يُطاق. وأخيراً، حزب العمال الكردستاني، ذاك التنظيم الذي عاش دهوراً في الجبال كمن ينحت وطنًا من صخور، طوى رايته الحمراء بهدوء، دون صفقة، دون قتال، وكأنما قرر أن يسلّم نفسه للتاريخ.
لقد نجح العالم، أو لنقل المنظومة الدولية، في “تفكيك السلاح” لا من خلال البنادق، بل عبر أدوات أشد تعقيداً ودهاءً: الردع العسكري في العراق وسوريا، الحصار الاقتصادي لحزب الله، التجويع السياسي لحماس، المفاوضات المشروطة للحوثيين، والخنق الناعم لحزب العمال. كل هذا حدث دون أن يُعلن أحد رسميًا نهاية الحروب، لكنها انتهت… بصمت بارد يشبه خريف بندقية.
وفي مقابل هذا المشهد، يلمع نموذج نادر: الحركة الكردية في العراق. هنا، لم تكن النهاية إجبارية ولا مفروضة، بل نابعة من فهم عميق للتاريخ والجغرافيا. قررت هذه الحركة أن تخلع البندقية وتلبس بدلة السياسة، أن تنتقل من الجبل إلى البرلمان، من الخندق إلى قاعة التصويت، من الخطاب الثوري إلى لغة الدستور. أدركت أن الأقليات لا يمكنها أن تعيش طويلاً على فوهة بندقية، وأن الأحلام إن لم تجد طريقاً إلى صناديق الاقتراع، ستبقى حبيسة الملاجئ.
لقد انتهى زمن “الرصاصة السياسية”، ذاك المفهوم الغريب الذي يجعل من البندقية ناطقاً رسمياً باسم الشعوب. لم تعد الرصاصة توقّع الاتفاقات، بل البيان السياسي. لم تعد الميليشيا تُنصّب زعيمًا، بل الناخب. لقد أصبح السلاح، الذي كان رمزًا للكرامة والنضال، عبئًا تاريخيًا يُثقل حامله، لا يرفعه.
نحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، مرحلة تكتب فيها المنطقة تاريخها بالحبر، لا بالبارود. مرحلة تطرح على كل حركة مسلحة سؤالاً وجودياً: هل ستتحول إلى حزب سياسي يدخل العصر بملابس مدنية، أم تبقى مجرد قصة تُروى عن زمنٍ كانت فيه البنادق تصنع الدول وتُسقط الخرائط؟
في زمنٍ جديد كهذا، ما عاد يكفي أن تملك البندقية لتكون قويًا، بل أن تملك الحجة. ما عاد الصراخ يكفي لتُسمع، بل يجب أن تُصوّت وتُقنع. في هذا الزمن، الدولة، بكل ما تمثّله من مؤسسات وانتخابات وقوانين، تتقدم بثقة، والبندقية تتوارى، حاملةً على كتفها ذكريات زمنٍ طويل، كتبه الشرق الأوسط بالحرب… وحان أن يُكتبه بالسلام.
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية