الفيدرالية الكوردية ضرورة سياسية لبناء سوريا الجديدة
فرهاد حبش
منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة جديدة من الجدل حول طبيعة الدولة المستقبلية، وموقع المكونات العرقية والدينية فيها، وعلى رأسها الشعب الكوردي. تدور النقاشات السياسية والاجتماعية اليوم حول الحاجة إلى إعادة صياغة بنية الدولة السورية بطريقة تضمن التعددية والعدالة، بعيدًا عن مركزية السلطة التي شكلت أساسًا للتهميش والإقصاء لعقود طويلة.
الفيدرالية، كمصطلح سياسي، تشير إلى نظام حكم تتوزع فيه السلطات بين حكومة مركزية وأقاليم أو ولايات تتمتع بصلاحيات دستورية واضحة. تستند إلى مبدأ التوازن في السلطة والاعتراف بالتنوع السياسي والاجتماعي والثقافي داخل الدولة الواحدة. وتُعتبر صيغة للحكم تُكرّس اللامركزية السياسية والإدارية، وتسهم في تحقيق الاستقرار في الدول ذات البنية الاجتماعية المعقدة. تُظهر التجارب العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا، أن الفيدرالية لا تعني الانفصال أو التقسيم، بل تهدف إلى الحفاظ على وحدة الدولة من خلال توزيع عادل للسلطة وضمان تمثيل المكونات المختلفة.
هذه التجارب أثبتت أن النجاح الفيدرالي يعتمد على وجود دستور توافقي، واحترام الحقوق، وثقافة سياسية مبنية على الشراكة. تتميز سوريا بتعدد قومي وطائفي وديني غني، يضم العرب والكورد والسريان والتركمان، إلى جانب الطوائف الدينية المتعددة. وقد أثبتت العقود الماضية من الحكم المركزي فشل هذا النموذج في تحقيق الشمول السياسي والاجتماعي.
إن الدولة المركزية عززت سياسات الإقصاء، لا سيما بحق الكورد الذين حرموا من حقوقهم الثقافية والسياسية. وفي ضوء هذه التحديات، تبرز الفيدرالية كخيار واقعي لمرحلة ما بعد الصراع. فهي تتيح للمكونات السورية، بما فيها الكورد، إدارة شؤونها الداخلية ضمن إطار الدولة الواحدة، ما يرسخ الشعور بالمواطنة المتساوية، ويكسر هيمنة المركز.
لطالما عانى الشعب الكوردي في سوريا من التهميش، حيث حُرم من الاعتراف بلغته وثقافته ومشاركته السياسية. ومع تصاعد دوره خلال الثورة السورية، أصبحت مسألة الاعتراف بحقوقه من القضايا الجوهرية في أي تسوية سياسية قادمة. الفيدرالية، في هذا السياق، لا تمثل فقط حلاً سياسياً لسوريا ككل، بل تتيح للكورد إطارًا دستوريًا يُعترف فيه بلغتهم، وهويتهم، وحقهم في إدارة مناطقهم.
ويمكن الاستفادة من تجربة إقليم كوردستان في العراق كنموذج ناجح نسبياً في الشرق الأوسط، إذ مكّنت الفيدرالية هناك من تحقيق الاستقرار النسبي، والتنمية الاقتصادية، والحفاظ على الخصوصية القومية.
لا يمكن تجاهل التحديات التي قد تواجه تطبيق النظام الفيدرالي في سوريا. فبعض القوى السياسية قد تنظر إلى الفيدرالية كتهديد لوحدة الدولة، في ظل المخاوف من الانفصال أو تفتيت البلاد. كما أن غياب الثقافة السياسية الداعمة للتعددية قد يعيق هذا التحول. ومع ذلك، فإن الفيدرالية، إن تم تبنيها في إطار وطني جامع، وبآليات دستورية واضحة، وحوار شامل، يمكن أن تمثل ركيزة لاستقرار طويل الأمد. فهي لا تفرض الانقسام، بل تخلق فضاءً للشراكة والتمثيل العادل.
إن العودة إلى الاستقرار في سوريا لا يمكن أن تتم عبر إعادة إنتاج الدولة المركزية، بل تتطلب نظامًا جديدًا يعترف بالتنوع ويوزّع السلطة بعدالة. الفيدرالية تُعد خيارًا عقلانيًا واستراتيجيًا لإعادة بناء سوريا، وضمان حقوق مكوناتها، وعلى رأسهم الشعب الكوردي. كما أنها السبيل لضمان مشاركة الجميع في صياغة مستقبل وطن يتسع للجميع. لقد حان الوقت لسوريا أن تتجاوز إرث الإقصاء، وتبني نموذجًا سياسيًا جديدًا يُعيد الاعتبار للمواطنة والعدالة والشراكة الوطنية. الفيدرالية ليست خيارًا ترفيًا، بل ضرورة تفرضها الوقائع، ومسارٌ محتوم لبناء دولة ديمقراطية عادلة.
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية