عودة لموضوع “الجامعات العراقية على طريق التطور وليس على طريق النكوص”
أ.د. محمد الربيعي
لم اكن واهما عندما نشرت في شهر أيلول/سبتمبر الماضي مقالاً بعنوان: (الجامعات العراقية على طريق التطور وليس على طريق النكوص) (راجع الرابط ادناه،1) ، ولأن هذا الموضوع يحيط به في ثقافتنا الاكاديمية الكثير من سوء الفهم، ومن ثم فهو مدعاة للغط شديد، والنتيجة اننا اذ نذكر هذا الموضوع فنحن لا نتحدث عن امر لا نعرف معايير تقييمه فحسب، بل الادهى والامر اننا ننسب اليه ما ليس اليه، إن لم نقل انه يكون في بعض الاحيان مجرد ادعاءات هدفها الهجوم غير الموضوعي للحط من المستوى الاكاديمي للجامعات العراقية وكأن ما يجري فيها لا يختلف ابدا عما يجري من امور اخرى في البلد من مساؤئ وجرائم وفساد. برأينا ان التنكيل بالجامعات العراقية بسبب قبول بعض الطلبة من المعدلات الاوطأ في جامعات وكليات لا تقبل بالعادة من هو حاصل على مثل هذه المعدلات، او بسبب وجود دورين او ثلاث للامتحانات، او لقرار منح درجات اضافية بالرغم من كونها قرارات فوقية لم يتم مناقشتها على صعيد واسع أو بعدم الاستئناس برأي هيئات التدريس، لهي مجرد حدس مبني على التكهن لا علاقة لها باحتمالات تراجع المستوى الاكاديمي والتسلسل العالمي ولا بالرصانة العلمية، وفي هذه التكهنات تكمن خطورة تسطيح النقاش حول العوامل الرئيسية التي تدفع بالجامعات نحو التطور والرقي وتغيير مساره بابعاده عن اهدافه في تحديد الاسباب الحقيقية التي تعيق نهضة الجامعات.
واذا كان ما يفسد هذه الادعاءات فهي انه بالرغم من الاوضاع الشاذة من متفجرات وقتل وارهاب وشوارع غير آمنة تعيق وصول الاساتذة والطلبة الى الجامعات، وظروف المعيشة القاسية، وقلة فرص العمل بعد التخرج، وانعدام الدوافع لشرائح كبيرة من الطلبة، لا زالت الجامعات تمارس وظيفتها وتتطور في كل المجالات الاكاديمية والبحثية والمنشآت والخدمات. وما يؤكد ان اساتذتنا وطلبتنا يبذلون ما يستطيعون عليه في ظل ظروف قاسية تتمثل احيانا في عدم ملائمة القاعات الدراسية للاساليب الحديثة للتعلم، والتكدس في اعداد الاساتذة والطلبة، ووجود الكثير من المغريات الاجتماعية التي تعيقهم عن التتبع والدراسة، وعدم قبول الطلبة في التخصصات التي يرغبون فيها، وعدم قناعتهم بكفاءة وأهلية بعض الاساتذة العلمية، وعدم احساسهم باهميتهم داخل قاعات الدراسة، وانعدام برامج الارشاد والدعم للطلبة.
ان لمعظم الجامعات العالمية سياسات لو طبقتها الجامعات العراقية لتعرضت الى اتهامات قاسية من مثل تدهور المستوى العلمي والاكاديمي. سياسات تماثل تلك التي تحدث في العراق، كالاجراءات التي هدفها تحسين نسب النجاح لان نسب النجاح العالية تعتبر علامة قوة للجامعة الغربية امام متطلبات الجودة والاعتماد، او قبول طلبة من دون المستوى المقرر لغرض انقاذ البرنامج الاكاديمي من السقوط الى هاوية الافلاس، او لمجرد عدم شعبية الجامعة او البرنامج الاكاديمي. وليس غريبا ان نرى كثير من المشرفين على الدراسات العليا في جامعات الدول الغربية يتهاونون مع الطلبة من ذوي المستويات الاكاديمية المحدودة وخصوصا الطلبة الاجانب ويقدمون لهم مساعدات تفوق تلك التي تقدم لاقرانهم خصوصا في اختيار ممتحن خارجي عطوف. دعنا اذن تحديد اهم المعايير المستخدمة لتقييم المستوى العلمي والاكاديمي للجامعة، لكي نضع الامور في مسارها الصحيح والتي على اساسها يمكن الاستنتاج فيما اذا كانت مستويات الجامعات العراقية تتحسن او تتدهور كالتالي:.
1- اداء الاستاذ الجامعي: يعتبر اداء الاستاذ الجامعي ونشاطه العلمي والاكاديمي وكفاءته معيارا مهما في قياس نشاط الجامعة، لانه ينعكس ايجابا على مستويات الخريجين المعلوماتية والاحترافية. ويعتمد جزء مهم من التقييم على آراء ومواقف واتجاهات الطلاب باعتبراهم المتلقيين للتعليم والمستفيدين منه، وبالتالي فلهم الحكم على جودة الاداء الاكاديمي للاستاذ. ويعتمد التقييم على اساليب واجراءات احصائية وتحليلية لمجمل فعاليات اساتذة الجامعة من بحث علمي واشراف ومساهمات على الصعيد المحلي والعالمي ودراسات واستشارات تهم المجتمع. لذا نرى حصيلة ايجابية لما يحصل ومنذ سنوات من اجراءات وفعاليات هدفها تطوير قابليات الاستاذ التدريسية، وتحسين مستواه العلمي، وتحفيزه على متابعة التطورات العلمية، وتعميق معرفته العامة بموضوع اختصاصه، وعلى ترجمة الافكار الاكاديمية الى ممارسات عملية، ورفع روح الاهتمام والتتبع والحماس للبحث العلمي العميق، والاهتمام من قبل الباحثين بالنشر العلمي في مجلات عالمية رصينة.
2- ضمان الجودة: تتعاظم أهمية نظام الجودة في عالم اليوم واهمية التقييم النوعي لكافة وظائف ونشاطات التعليم العالي على أسس معايير ومستويات دولية للجودة. وبالرغم من محدودية التنافس بين الجامعات لاجتذاب الطلبة، وتعاظم اعداد الطلبة المسجلين في الجامعات، ومحدودية التمويل، ووجود عدد كبير من مؤسسات التعليم الخاصة، تبقى هذه العملية مهمة لتعزيز ثقة المجتمع المحلي والدولة والمجتمع العلمي والاكاديمي العالمي بالجامعات العراقية، وتوفر ايضا آلية لمساءلة جميع المعنيين بالإعداد والتنفيذ والإشراف والإدارة وضمان اتفاق النشاطات التربوية للبرامج الاكاديمية مع المعايير العالمية. الجامعات العراقية مهتمة كثيرا بضمان الجودة والاعتماد الأكاديمي، وتبذل جهودا كبيرة في تحسين جودة برامجها، وتقوم بالاستعانة بالخبراء الدوليين ومنظمات الجودة العالمية لمساعدتها في تطوير ادائها وتقيم المؤتمرات الدولية وورشات العمل لنشر ثقافة الجودة بين صفوف اساتذتها وطلابها. وما برنامج الينوسكو لضمان وتحسين الجودة للكليات الهندسية العراقية الا مثالا رائعا يمكن الأخذ به وتعميمه على الكليات الأخرى. والحق يقال انه مثال يصلح لتطبيقه في الجامعات العربية كافة. هذا المشروع الرائد لم يحظى باعلام كاف لكي يتم التعريف به سواء على صعيد العراق او المنطقة العربية (للمعلومات راجع الرابط ادناه، 2).
3- المناهج وفلسفة التعليم والتعلم: من العوامل المعوِّقة لتطوير منظومة التعليم العالي هي غلبة التفكير الاتباعي المساير وجمود المناهج وطرائق التدريس. وهذا ما فرض الانتقال الحاسم والسريع لتطوير المناهج والوسائل والطرق التعليمية بما يناسب احتياجات عصر المعلوماتية وانتاج المعرفة، وهو ما تشهده معظم البرامج الاكاديمية في الجامعات العراقية، كما بدأ بتصحيح الاختلال في التوازن الحاصل بين الدراسات العلمية والنظرية لصالح التوسع في فرص الالتحاق بالدراسات العلمية والعملية والتكنولوجية، واعادة النظر في هيكلية الجامعات كما يحصل في الجامعات الكردستانية. وبدأت الجامعات بالاهتمام بالجوانب النوعية للنظام التعليمي، وبتفهم فلسفة التعليم في جامعات الدول المتقدمة والتي تتوجه اليوم نحو تداخل التخصصات والتخلي عن التلقين وتطوير مهارات الادارة والقيادة والاتصال بحيث تتيح للخريجين القدرة على التكيف مع متطلبات المجتمع وسوق العمل. وبدأ الاهتمام بالأسلوب العلمي في التعليم، وذلك بالتخطيط التعليمي من خلال وضع رؤى ورسائل واهداف تربويه لكل جامعة وكلية وقسم تحدد وظائف التعليم استنادا على قيم حضارية، واستراتيجيه تعليمية تحدد ألخطة التعليمية وأسلوب تعليمي يحدد المنهج التعليمى.
4- البيئة الاكاديمية: تعتمد الجامعة في بناء القدرات العلمية على البيئة الاكاديمية التي توفرها للطلاب والأساتذة، بحيث تتيح الاستفادة القصوى من الامكانيات الذاتية، وهي بيئة توفر الحريات الاكاديمية وتكفل حرية التعبير وحرية العمل، وحرية نشر المعلومات وحرية اجراء البحوث ونشر المعرفة والحقيقة من دون قيود، وهي بيئة قادرة على توظيف تكنولوجيا المعلومات للارتقاء بالتعليم والتعلم وضمان شفافية ووضوح للبرامج الاكاديمية وتوفير معلومات واضحة ودقيقة للطلبة.
5- استقلالية الجامعة: وفقا لتصنيف البنك الدولي فان أفضل الجامعات هي الجامعات المستقلة بدرجة كبيرة. الدراسة التي صدرت للبنك الدولي في عام 2011، بعنوان الطريق إلى التميز الأكاديمي: تكوين الجامعات البحثية ذات الطراز العالمي، وجدت أن الجامعات الجديدة يمكن أن تنمو إلى أفضل المؤسسات البحثية ذات الجودة العالية في غضون عقدين أو ثلاثة عقود عندما تتوفر المواهب الأكاديمية والموارد المالية والاستقلالية والحرية الأكاديمية منذ بداية التأسيس. “استقلال الجامعة يحمل طابع متعدد الأبعاد. هناك قائمة واسعة الابعاد، ولكن معظم الكتاب يتفق إلى حد كبير على ثلاثة، وهي: الاستقلالية المؤسساتية، والاستقلال المالي، والاستقلال الأكاديمي. يشير الحكم الذاتي المؤسساتي إلى قدرة وسلطة مؤسسات التعليم العالي في تحديد أهدافها الخاصة، وتعيين مجلس إدارتها، واختيار وتوظيف الموظفين والاكاديمين. ويشير الاستقلال المالي إلى قدرة مؤسسات التعليم العالي على الحصول على التمويل، وتحديد الرسوم الدراسية، وامتلاك وإدارة المباني” (راجع دراستي المذكورة في الرابط ادناه، 3). وتشير الادلة الى ان الجامعات العراقية بدأت تمارس نوعا من اللامركزية في ادارتها وتدبير شؤونها، الا انه يوجد تلكؤ في استخدام الصلاحيات الممنوحة للجامعات نتيجة عدم استقرار الأمن وتخوفا من الملاحقة القانونية (النزاهة) في حالة الوقوع في الخطأ، وهي حالة سلبية يعاني منها النظام الإداري العراقي تؤدي الى تمركز السلطات بيد المسؤلين السياسين الاعلى درجة لغرض تسيير مؤسسات الدولة.
6- ثقافة التغيير: ان الاختبار الحقيقي لتطوير العمل الاكاديمي يكمن في تغيير سلوك وممارسات التعليم القديمة بما يفيد الطلاب ويؤهلهم لسوق العمل تأهيلا علميا واحترافيا، وفي خلق ثقافة تعاونية بين التدريسين لتحسين تعلم الطلاب. ان احد اهم التحديات التي لا زالت تواجه القيادات الجامعية هو ترسيخ ثقافة التغيير داخل الجامعة، وهي ثقافة تعتمد على الجودة وادراتها وعلى الاهتمام بالاستاذ والطالب وبالبيئة الاكاديمية، وبتطبيق شعار “اعطني استاذا جيدا اعطيك جامعة ناجحة”، وهذا يحتاج الى وقت، بالرغم من اننا نرى الآن بداياتها، لانها المفتاح لتطوير ورقي الجامعة العراقية ووصولها لمستوى الجامعات العالمية. وهذه البدايات تنعكس في الاهتمام بمقدار تعلم الطلاب وفهمهم للمادة استنادا على مخرجات تعلم عالمية المستوى وليس بمقدار ما قام الاستاذ بتدريسه.
7- البحث العلمي: في ضوء الاهداف العامة للتوجه العلمي الجديد في عراق اليوم والتي في صدارتها هدف تعزيز القدرات العراقية في العلوم والتكنولوجيات الحديثة ودورها في البناء والتنمية لبناء العراق، وبالتعاون وبمساهمة الكفاءات العلمية والتكنولوجية في الداخل والخارج تبنت وزارتي التعليم العالي والبحث العلمي، والعلوم والتكنولوجيا مشاريع استراتيجية هامة لتطوير البحث العلمي استنادا على واقع البحث العلمي والتكنولوجي من حيث عدد ومستويات القدرات العلمية في كل فرع من فروع المعرفة العلمية، وما يمكن ان تقدمه مؤسسات البحث العلمي في الجامعات وخارجها، وازدادت نسبة الانفاق الحكومي على البحث العلمي زيادة كبيرة مما ادى الى تقدم ملحوظ في عدد البحوث المنشورة في مجلات رصينة، وانحسر التزوير والاقتباس العلمي غير المشروع كنتيجة لاجراءات وزارة التعليم العالي بهذا الشأن، وهو الامر الذي كان شائعا في العقدين الماضيين. وساهمت التعليمات بضرورة ادراج اسم الجامعة العراقية للباحث الموفد للدراسة الى جامعة اجنبية في اصداراته وهو في الخارج في تحسين سمعة الجامعات العراقية. وما لمسته عن كثب خلال زياراتي المتكررة في السنوات الاخيرة هو زيادة الوعي العلمي البحثي بدرجة كبيرة، والاهتمام بالنشر في المجلات الرصينة وفي النشر الالكتروني، وكتابة مشاريع البحث والتعاون مع علماء الخارج، وزيادة الاشتراك في المجلات العالمية والمكتبات الالكترونية.
قد تلتقي وقد تفترق المعايير المدرجة اعلاه لقياس درجة تطور الجامعات العراقية عن معايير التصنيفات الدولية للجامعات، والتي عادة ما تكون منحازة للجامعات الرائدة والمتميزة والتي اعتمدت في شهرتها على بحوثها المتفوقة وعلمائها وبينهم من حملة جائزة نوبل، وعلى امكانياتها المالية وعدد طلابها وفرص العمل الكبيرة التي يجدوها بعد تخرجهم. وتعتمد هذه التصنيفات على معايير قد لا تلعب دورا مهما في تكوين الجامعات العراقية في الوقت الحاضر كعدد الطلبة والاساتذة الاجانب وحجم الجامعة أو معدل النشر في المجلات العلمية الراقية كمجلة الطبيعة، ومجلة العلم، ووجود علماء حاصلين على جوائز عالمية متميزة كجائزة نوبل.
لذا فاني اعود وأؤكد ان الجامعات العراقية تتطور وتتقدم حسب المعايير التي ذكرتها اعلاه، واحب ان اعيد ما ذكرته سابقا وفي مجالات عديدة ان الجامعة الممتازة يكون اعضاء هيئاتها التدريسية من اصحاب المستويات العالية، ومن المهتمين دائما بتطوير معلوماتهم العلمية والمهنية، ومن المندفعين للبحث والتطوير، ويتحملون المسؤولية ولا يتهربون منها، ولا يشكون ويندبون حظهم ويلقون اللوم على جامعاتهم، وهم الذين يسعون الى بناء انفسهم وبناء جامعاتهم بأي ظرف كانت الجامعة فيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الجامعات العراقية على طريق التطور وليس على طريق النكوص
http://www.kitabat.info/subject.php?id=36684
2- تعميم ضمان الجودة في التعليم العالي في العراق. منظمة الامم المتحدة للتربية والعلم والثقافة
http://www.qahei.org/qahei_en
3- عودة أخرى لموضوع استقلالية الجامعة والحرية الاكاديمية
http://www.akhbaar.org/home/2013/9/153873.html
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية