العراق والفساد والسبل الكفيلة بمعالجته
إن التظاهرات الأخيرة التي قام بها أبناء شعبنا العراقي البطل لا تمثل إلا جزءا قليلا من المعاناة والظلم الذي يعاني منه شعبنا العراقي .. إننا نؤكد على تصحيح مسار الدولة الذي أصبح منحرفا ولا يتماشى مع أي من مقاييس دول العالم حتى المتأخرة منها. ولكن علينا واجب وهو أن نشخص المشاكل ونعالجها بشكل عقلاني ومنطقي لكي نصل إلى أفضل الحلول. إن ستراتيجية محاربة الفساد يجب أن تعتمد على المبادئ الآتية:
أ. منع الفساد قبل حصوله وتطلب ذلك إجراءات كفيلة بمنع السرقة والفساد قبل حصوله. فإقالة المفسدين أو معاقبتهم وان كان قد يشفي غليل الشعب وقتيا ولكنه لن يجدي نفعا بعد أن خرب المفسد ما خرب وعاث بالأرض فسادا وبذر أموال الشعب العراقي وبدد الفرص وذهبت أمواله لتدخل دوامة الفساد المفسدة التي قد تصل إلى تمويل ورعاية الإرهاب. كما ان استرداد الأموال المسروقة أصعب بكثير من المحافظة عليها من السرقة ويواجه احتمالات الضياع والتبدد.
ب. اعتماد مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب واعتماد الكفاءة في مناصب الدولة حيث بينت الحقائق والوقائع أن غياب الكفاءة يتناسب طرديا مع انتشار الفساد وانتعاشه. حيث أن عمليات بيع وشراء المناصب يعتمد على الترويج لعناصر بعيدة عن الكفاءة يسهل التحكم بها وتطويعها لصالح الأحزاب والكتل السياسية المتصارعة.
ت. وضع آليات لتحديد كمي دقيق للفساد ومعالجته ووضع أولويات لمعالجة الفساد وإصلاح المفاصل التي أدت إلى حصول هذا الفساد.
ولذا سأذكر جملة من النقاط المهمة التي تسلط الضوء على إيجاد الحلول الجذرية وليست الحلول الوقتية أو التزويقية. واطرح هذه النقاط لكي تكون نهجا لسترتيجية يتم تطبيقها على خطوات منسقة ولكي تسحب البساط من تحت أرجل الفاسدين وتجردهم من وسائل الالتفاف والمراوغة التي جعلت من الشعب العراقي بلا حول ولاقوه. وهي ما يأتي:
أولاً: تفعيل آلية المراقبة المالية العريقة في الدولة العراقية: إن محاربة الفساد يجب أن تبدأ وتنتهي بمتابعة سريان الأموال وحركتها والتصرف بها. إن العراق يمتلك جهازا ماليا متطورا وهو ديوان الرقابة المالية وهو كان يعتبر الأول في الشرق الأوسط. إن جهاز الرقابة المالية مسؤول عن موازنة الحسابات الخاصة بدوائر الدولة وغلقها وتحديد الثغرات المالية ومعالجتها وغياب ذلك كما يحصل الآن يؤدي إلى تسيب المال العام وهو بمثابة دعوة للفساد ،لأن تغيير الأشخاص دون اعتماد رقابة مالية عالية القدرة, والاعتماد على النوايا الصافية لأصحاب المناصب العليا لا يمكن أن يكون أسلوبا معتمدا لإدارة الدولة ماليا.
ثانيا: استقلالية الأجهزة المالية عن السلطة التنفيذية بحسب ما ورد في الدستور: لقد أكد دستورنا على فصل الهيئات المستقلة عن السلطة التنفيذية وبذلك حدد الدستور بأن يكون البنك المركزي وديوان الرقابة المالية وغيرها خارج سيطرة واستغلال السلطة التنفيذية ولكن ما حصل ويحصل الآن هو السيطرة الكاملة للسلطة التنفيذية على هذه الأجهزة والتلاعب بها مما أدى إلى تسخيرها لصالح المفسدين والفاسدين في الحكومة.
ثالثا: تعيينات المناصب العليا خارج السلطة التنفيذية: لقد سن دستورنا على أن تكون كافة التعيينات مقترحة من قبل السلطة التنفيذية على أن يتم التصديق عليها من قبل البرلمان وذلك لكي تكون هناك حلقة مهمة من الرقابة ومنع استغلال السلطة من قبل السلطة التنفيذية ولكن السلطة التنفيذية قامت بمخالفة صريحة للدستور بالتعيينات بالوكالة التي أصبحت واقعيا تعيينات دائمية ضاربة بعرض الحائط الدستور وسلطة الشعب العراقي. إننا لو تمعنا بما يحصل من فساد فسنجد أن مناصب ما يسمى بالوكالة كانت غايتها الاستغلال والانفراد بالسلطة ونشر الفساد والمفسدين من خلال صفقات سرية و مشبوهة.
رابعا: بقاء وعدم إزالة واستبدال الكثير من القوانين الجائرة التي سنت تحت اشتراكية النظام الصدامي المباد والتي تحد من الاستثمار الأجنبي والمحلي على حساب توسيع النفوذ والسلطة للحكومة دون الأخذ بنظر الاعتبار التطور الحاصل في الاقتصاد العالمي. وأسباب بقاء هذه القوانين يعود بالدرجة الأكبر إلى العقلية الجامدة والرجعية للكثير من أعضاء البرلمان والحكومة والتي لا تزال تدور في دائرة التفكير المغلق و المقتبس من الفكر التسلطي للنظام المباد الذي لا يثق بالشعب وقدراته وإنما ببروقراطية حكومية اضطهادية ورجعية.
خامسا: سن القوانين اللازمة لتنشيط الاقتصاد والاستثمار: إن الاعتماد الكلي على صادرات النفط وعدم وجود اقتصاد حقيقي خارج نطاق السلطة يؤدي بالتالي إلى احتكار الحكومة لرأس المال والسلطة في وقت واحد مما يؤدي إلى دكتاتورية حتمية وإهمال واسع لمطالب الشعب وتطلعاته. فالشعب يقع كليا تحت سلطة الحكومة فهو يعتمد اقتصاديا بشكل كلي عليها وتتحكم الحكومة بمصيره مما خلق حالة عدم توازن خطيرة مابين الدولة الغنية المتغطرسة وبين الشعب الفقير الضعيف. ولقلب هذه الحالة لصالح الشعب يجب سن شبكة من القوانين الاقتصادية والمالية التي تشجع الاقتصاد الحر والاستثمار بحيث يستطيع أن يعتمد الشعب على مصادر اقتصادية خارج نطاق السلطة الحكومية وبذلك نخلق نوعا من التوازن بين السلطة و الشعب.
سادسا: تفعيل وتشكيل مجلس الخدمة بحسب ما ورد في المادة 107 من الدستور: إن تعيينات المناصب في غياب معايير الكفاءة والمهنية كان لها الدور الأكبر في نشر الفساد والمفسدين وجزء كبير من صفقات بيع وشراء الوزارات الحكومية على أساس السرقة والرشوة على حساب الشعب العراقي. إن مجلس الخدمة يمثل حلقة أساسية لضمان التعيينات على أساس الكفاءة بحسب المتطلبات المهنية والأكاديمية المطلوبة للوظيفة والمنصب ،وهذا يتطلب سن وتشكيل مجلس الخدمة الذي سيكون كفيلا بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب وسيجعل الكفة العليا للمؤهل المهني والكفاءة على حساب المحسوبية والطائفية والعشائرية وهي السبيل الوحيد لجعل شعارات القضاء على الطائفية حقيقة واقعية لا مجرد شعارات زائفة ومزايدات سياسية.
سابعا: تفعيل وإنشاء لجان حكومية مشتركة يشارك فيها مختلف أركان الحكومة ذات العلاقة للموافقة والإشراف على تنفيذ العقود وإكمالها. حيث تقوم هذه اللجان بدراسة العقود وتقييمها ومن ثم مراقبة تنفيذها بما يضمن حماية أموال الشعب العراقي والتأكد من وجود انجازات في المشاريع التي يتناسب مع الدفعات المالية لهذه العقود.
ثامنا: استقلالية النظام القضائي بما يضمن معاقبة المفسدين ومحاسبتهم واعتماد المادة الدستورية رقم 73 أولا التي تمنع إصدار عفو بحق مرتكبي الفساد ومنعهم من إعادة ممارسة السياسة والترشيح للانتخابات.
تاسعا: الاستعانة بالشركات العالمية المرموقة والكبرى لإدارة تنفيذ المشاريع الكبرى والمراقبة المالية والرقابة على صرفيات الحكومة العراقية وتدريب الكوادر العراقية على احدث طرق المراقبة المالية والمتابعة.
عاشرا: إلغاء لجنة النزهة: قبل أن ادخل في شرح أسباب طرحي لإلغاء لجنة النزاهة أود أن أبين ماهية ظروف تشكيل هذه اللجنة. لقد طرح حاكم العراق السيد بول بريمر أمام مجلس الحكم فكرة تأسيس لجنة تحت مسمى “Integrity Committee” وهي لجنة الغاية منها محاربة الفساد. وفعلا تمت ترجمة هذا المصطلح إلى العربية لنخرج باسم “لجنة النزاهة”. وقد عارضنا هذا الاقتراح بشدة للأسباب الآتية:
أ. إن تأسيس لجنة كهذه كان بالنسبة لنا بمثابة جهل وتصغير و استخفاف من قبل الحاكم الأمريكي بريمر بقدرات الدولة العراقية حيث تمتلك الدولة العراقية أفضل جهاز مراقبة مالي وهو جهاز الرقابة المالية العريق وهو مؤهل بشكل كامل لمتابعة وإيجاد أي ثغرة فساد في الدولة. وكان الأجدر تطوير ديوان الرقابة وتحديثه وتدريب كوادره و لربما طلب المساعدة من شركات استشارية مالية عالمية لتقويته وتحسينه.
ب. إن محاربة الفاسدين ومحاسبتهم قانونيا يتطلب جهاز قضائي حازم وقوي يستند إلى أدلة بالتعاون مع ديوان الرقابة المالية وغيرها ولذا كان الأجدر دعم القضاء العراقي وتدريبه على الأمور المالية بدلا من استنباط جهاز جديد.
ت. إن محاربة الفساد تقع في المتابعة والمراقبة المالية، ولذا لا وجود لشيء حقيقي ممكن من خلاله متابعة وتقدير النزاهة للبشر وان استعمال كلمة نزاهة بشكل مفتوح سيكون خطيرا لأنه بالإمكان استخدام هذه الكلمة بأشكال قصريه للانتقاص أو تجريم الأعداء السياسيين من قبل الحاكم.
بالرغم من المعارضة الشديدة وقف احد أعضاء مجلس الحكم بشدة مع مقترح الحاكم بريمر وفعلا تم تأسيس هذه اللجنة. تخوفاتنا وتوقعاتنا أثبتت صحتها. فلجنة النزاهة قللت من شأن ديوان الرقابة المالية و القضاء العراقي في محاربة الفساد. وللأسف تحولت إلى لجنة تم استعمالها بأشكال بغيضة لتسقيط الأعداء السياسيين ولم تفلح هذه اللجنة في إدانة أو محاربة فساد الحيتان الكبيرة كما كان مؤملا بل استهدفت من الفاسدين صغيري الحجم فقط. كما لاحظنا التغيير المستمر لرؤساء هذا الجهاز الحساس تماشيا مع هوى ورغبات الحاكم بشكل يفوق أي جهاز آخر في الدولة وهو إثبات واقعي على تسييسها وسوء عملها ووجودها. لذا أجد من الضروري إعادة الحياة إلى أجهزة الدولة العراقية العريقة وتقويتها بدلا من إضعافها كديوان الرقابة المالية والقضاء الاقتصادي العراقي.
إن التظاهرات المتتالية التي حصلت من ساحة التحرير وساحات أخرى في مدن العراق كانت ومازالت تنتهي فورتها سريعا لكونها لا تتبنى مشروعا واضحا أو برنامجا حكوميا علميا مقترحا يوجد الحلول لهذه المشاكل. فالثورة والانتفاضة يجب إن يكون لها نهج واضح ولا تقتصر فقط على المطالبة بالإطاحة بالفاسدين أو قطع رواتبهم لان النظام إذا كان مبنيا على أسس خاطئة فسيأتي فاسدا بديلا وسرعان ما تتبخر الانجازات أمام الخبرة العتيدة وإخطبوط الفساد الذي نجح في تمييع المطالب وحولها إلى رماد متطاير.
المهندس الاستشاري انتفاض كمال قنبر
رئيس حزب المستقبل العراقي الدستوري
entifadh@gmail.com
—
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية

