الرئيس مسعود بارزاني منقذ الإيزيدية..
د. أيوب صابر گلالي
يصادف اليوم الذكرى الحادية عشرة لأبشع جريمة حدثت في القرن الحادي والعشرين، وهي الإبادة الجماعية للإيزيديين التي ارتكبها إرهابيو داعش في 3-8-2014. يعد الإيزيديون جزءًا لا يتجزأ من الشعب الكوردي، فهم نسيج هذه الأمة العريقة التي وجدت على هذه البسيطة منذ آلاف السنين. وقد حاول الكثيرون تشويه أصل هذا الجزء المهم من الشعب الكوردي، واستئصالهم وتغيير عقيدتهم والتأثير على تكوينهم العرقي والديني المتميز، إلا أن جميع محاولاتهم باءت بالفشل الذريع. ويكفي أن اللغة التي يتحدثون بها هي الدليل القاطع على أصالتهم القومية، وكذلك الكتابان المقدسان (الجلوة) و(مصحف رةش) اللذان كُتبا باللغة الكوردية وبأبجدية كوردية أصيلة وقديمة.
وتعرض الإيزيديون عبر العصور والأزمان لشتى أنواع الظلم والاضطهاد ومحاولة محو هويتهم بطرق ووسائل مختلفة، حتى وصلت إلى حملات تطهير وإبادة جماعية. إلا أن الضربة المؤلمة التي أصابت الكورد حديثًا كانت احتلال مدينة سنجار ذات الأغلبية الإيزيدية من قبل تنظيم داعش، حيث استطاع داعش -بعد أن سيطر على الأسلحة والذخائر المتطورة التي تركتها القوات العراقية في الموصل، وكذلك قلة الأسلحة الكافية لدى قوات الپیشمرگه لمواجهة هذه القوات- السيطرة على هذه المناطق وارتكاب مجازر وعمليات إبادة جماعية بحق مواطنيها، حيث قاموا بقتل أكثر من 5000 شخص، وقاموا بسبي العديد من النساء الإيزيديات. بينما لجأ البقية إلى جبل سنجار خوفًا من الإبادة الجماعية التي واجهوها، فحوصروا هناك ومات العديد منهم بسبب الجوع والعطش والمرض، إلى أن تمكنت قوات الپیشمرگه بدعم من قوات التحالف من تأمين الطرق لنزولهم من الجبل إلى مناطق أكثر أمانًا. كما تسببت الحملة أيضًا في اختطاف أكثر من 5000 آخرين، حيث لا يزال مصير ما يقارب 3000 منهم مجهولًا حتى الآن، وتشريد ما يقارب 400000 شخص، فضلاً عن تعرض 1500 امرأة للاغتصاب الجماعي، وبيع الآلاف منهن في السوق كسبايا.
إن ما حصل من سبي واغتصاب للنساء الإيزيديات هو فعل إبادة بامتياز بكل المقاييس والأعراف والسنن الدولية التي تنطبق عليها جريمة الإبادة الجماعية. فقد كان السبي وما تبعه من اغتصاب جماعي نوعًا خاصًا من الهجوم استخدم كوسيلة للتطهير العرقي، بهدف الترويع والإذلال الجماعي وحطّاً لكرامتها، وأيضًا بهدف التأثير على التكوين العرقي لهم. وبذا ينتمي هذا الفعل إلى سلسلة الإبادات التي حاقت بالإيزيديين والتي عرفت باسم «الفرمانات». فهي من حيث الجوهر استمرار لتلك السياسات التي حاولت استئصال الإيزيديين وتغيير عقيدتهم والتأثير على تكوينهم العرقي والديني المتميز. ووفقًا للمواثيق والمعاهدات والقوانين الدولية المتعلقة بجرائم الإبادة الجماعية (الجينوسايد)، فإن ما لحقت بالإيزيديين من المجازر والسبي والتشريد من أرضهم وفي ديارهم الآمنة هو بحق جريمة الإبادة الجماعية بكل معانيها ومقاييسها. فحسب ما جاء في التعريف المتبع والإطار العام للإبادة الجماعية لرافائيل ليمكين الذي يُعد أول من قام بصياغة كلمة الإبادة الجماعية، وهو “التدمير المبيت للتجمعات القومية والعرقية والدينية والاجتماعية بما فيها أفعال الإبادة الموجهة ضد تجمعات عرقية أو دينية أو اجتماعية أيا كان الدافع وراءها سياسيًا أم دينيًا… إلخ، كالمجازر والمذابح المدبرة، والأفعال المنفذة بغية تدمير الوجود الاقتصادي لأعضاء تجمع ما… إلخ، وتتصل بهذه الفئة أنواع الأعمال الوحشية التي تتعرض لكرامة الفرد، كأعمال الإهانة.” فإن ما تعرض له أتباع الديانة الإيزيدية هو إبادة جماعية (Genocide) بكل المقاييس والمعايير المتبعة والمألوفة بهذا الخصوص حسب إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948، الذي يعني ارتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية لجماعة ما على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين مثل: قتل أعضاء الجماعة، إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة، إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كليًا أو جزئيًا، وفرض إجراءات تهدف إلى تقليل المواليد داخل الجماعة إلى جانب نقل الأطفال بالإكراه إلى جماعة أخرى. وهذا ما حدث بالفعل لإيزيديي سنجار، والذي نجم عنه تدمير النسيج الاجتماعي لهذا المجتمع.
لقد أراد تنظيم داعش بفعلته هذه إعادة التاريخ من جديد في تغيير ديموغرافي كامل للمنطقة، وإخراج معظم الكورد من المناطق الاستراتيجية وجلب الآخرين المطيعين له. العملية التي بدأت منذ بدايات حملات التهجير والتعريب والتبعيث في الستينات والسبعينات من القرن الماضي حتى بلغت ذروتها وقساوتها في الثمانينات القرن الماضي بأنفلة أكثر من 8000 بارزاني والاختفاء القسري لآلاف الفيليين وعملية الإبادة الجماعية في مناطق گرميان وبهدينان ومن ثم قصف مدينة هلبجة ومعظم مناطق كوردستان بالأسلحة الكيميائية.
بعد أن احتل داعش سنجار والمناطق التي يقطنها الإيزيديون – ولأسباب ذكرت سابقاً – وما قام به من المجازر بحق مواطنيها الآمنين، كانت أولى الأعمال والاستراتيجيات التي تبناها الرئيس مسعود بارزاني واعتبرها من أولويات واهتمامات نشاطات البيشمركة التي يجب القيام بها هي تحرير هذه المناطق من براثن الإرهاب مهما كانت وبأي ثمن. وبعد معارك عنيفة مع الإرهابيين المغتصبين وبحضور شخصي للرئيس مسعود بارزاني نفسه في ميادين المعركة، استطاعت قوات الپيشمرگة وبمساعدة القوات الجوية لطيران التحالف تحرير مدينة سنجار من بطش داعش. وأدى مسعود بارزاني بما نذره على نفسه، ولم يخلف الوعد الذي قطعه بأن لا يرتاح البال حتى يتحرر سنجار وجميع المناطق الأخرى من قبضة تنظيم داعش، ويعود المواطنون إلى سكناهم آمنين، مطمئنين، معززين مكرمين. إثر ذلك أطلق المجلس الروحاني للإيزيديين لقب «منقذ الإيزيدية» على الرئيس مسعود بارزاني، وثمنوا عالياً تضحيات الپيشمرگة ودورهم البطولي في ملحمة تحرير سنجار.
من المعروف أن للإيزيديين منزلة كبيرة وهامة عند مسعود بارزاني، فنرى أنه وفي مناسبات كثيرة يعتبرهم نموذجاً ومثالاً واضحاً على صمود وتضحية الكورد ككل. ورغم جميع المحاولات لاستيعابهم والقضاء عليهم، إلا أن الكورد الإيزيديين دافعوا وببسالة فائقة عن هويتهم القومية، ولم يستطع أحد أن يمحوهم أو يلغي وجودهم أو يمحي هويتهم القومية. إن التزام الكورد الإيزيديين بهويتهم القومية والدينية جعل منهم دوماً سلاحاً قوياً يستخدمونه في مواجهة أعدائهم الذين على الرغم من قساوتهم وبربريتهم وجميع أفعالهم اللاإنسانية أثناء احتلال مناطقهم، لم يستطيعوا تغيير إرادة هذا الجزء العزيز من الشعب الكوردي. وإن ما قام به المئات من شباب كوردستان في حملهم أسلحة الشرف وانضمامهم إلى صفوف قوات البيشمركة من جميع أنحاء إقليم كوردستان وتحرير مدينة سنجار بدمائهم الزكية واستشهاد الكثيرين من أجلها بعث برسالة واضحة للجميع تؤكد حقيقة واحدة وهي أن الإيزيديين هم جزء لا يتجزأ من شعب كوردستان ويعيشون تحت رايته الخفاقة في العلا.
يجدر الذكر أنه بقرار وجهود من الرئيس مسعود بارزاني أعيد عدد كبير من النساء اللواتي كن قد وقعن في أسر داعش إبان سيطرته على مدينة سنجار والمناطق الأخرى التي يقطن فيها الإيزيديون، والجهود مستمرة لإعادة ما تبقى في هذا الشأن. ولم يقتصر دعم ومساندة الرئيس مسعود بارزاني للإيزيديين في هذا الجانب فقط، بل إن مساندته للإيزيديين معروفة منذ زمن طويل وفي جوانب مختلفة. فإبان تشكيل الحكومة العراقية الانتقالية بعد سقوط النظام وتحديداً في حزيران 2004، أصرّ الرئيس مسعود بارزاني على الأمريكيين والأخضر الإبراهيمي المبعوث الخاص للأمم المتحدة في العراق على أن يكون في تشكيلة الحكومة العراقية الانتقالية الجديدة وزير للإيزيديين وذلك ليكون أساساً وبارقة أمل لمكون مهم من الشعب الكوردي. واستقبل هذا الإصرار والمقترح بترحاب كبير من قبل الجميع وتم تسمية وترشيح إحدى الشخصيات الإيزيدية المناسبة لهذا المنصب لأول مرة في تاريخ الحكم في العراق.
في عام 2021 أصدر البرلمان العراقي قانون رقم 8 لسنة 2021 وهو قانون الناجيات الإيزيديات الذي بالإضافة إلى الإقرار بالجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش بجريمة الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، وضع إطارًا لتقديم تعويضات مادية واجتماعية للناجيات الإيزيديات. إلا أنه وحتى كتابة هذه السطور لم يُنفذ مضمون هذا القانون على الرغم من مرور ما يقارب أربع سنوات على صدوره وهذا بالتأكيد خرق سافر وواضح للدستور الذي بني عليه العراق الجديد.
لقد ثبت أن الهوية هي جوهر أي إبادة جماعية وأن الإبادة الجماعية نتيجة متطرفة لعمليات الهوية الطبيعية. وفقًا لهذا السياق المألوف لمفهوم جوهر الإبادة الجماعية والتي ترى أن كل الإبادات الجماعية التي حدثت عبر التاريخ كونت صورة مأساوية فريدة من نوعها وأن أنماط حدوثها تقدم دروسًا للمساعدة في فهم ما كان يمكن تفاديه من الإبادة الجماعية ومظالمها التي لا يمكن إصلاحها سواء في المجتمع ذاته أو في حالات أخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن التكهن بأن العراق يستطيع تفادي حدوث إبادة جماعية مماثلة مستقبلًا؟ ما هي الضمانات لعدم حدوث ذلك؟ وهل إن غياب معالجة الأسباب الجذرية للإبادة الجماعية التي تكمن في العقلية الشوفينية لمرتكبيها وكذلك الجانب التربوي الذي يحتاج للإصلاح يعدّ أحد العوامل التي تبقى خطرًا في تكرار الإبادة الجماعية؟
أسئلة تبقى سارية المفعول ومطروحة على الجميع – دون استثناء – للإجابة عليها دون التهرب أو التملص منها.
تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية