أبريل 16, 2024

Lalish Media Network

صحيفة إلكترونية يومية تصدر باشراف الهيئة العليا لمركز لالش الثقافي والاجتماعي في دهوك - كوردستان العراق

سوزدار ميدي: قراءة تحليلية لرسائل الملك الميتّاني تُوشْراتّا إلى الفرعون آمُونْحُوتَب الحلقة – 6

قراءة تحليلية لرسائل الملك الميتّاني تُوشْراتّا إلى الفرعون آمُونْحُوتَب الحلقة – 6

سوزدار ميدي

ذكرنا في الدراسة السابقة مقاطع من رسائل الملك الميتّاني تُوشْراتّا الثاني إلى الفرعون المصري آمُونْحُوتَب الثالث، وفيما يلي ملاحظات تحليلية لتلك الرسائل.

الملاحظة الأولى: الرسائل الميتّانية- المصرية المنشورة موجَّهة فقط من ملوك ميتّاني إلى الفراعنة، ولا نجد بينها رسالة من فرعون إلى ملك ميتّاني، وهذا يخالف الواقع والعُرف الدبلوماسي؛ فالمعتاد أن القادة، سواء أكانوا في حالة السِّلم أم الحرب، يردّون على الرسائل الموجَّهة إليهم من القادة الآخرين.

وثمّة في رسائل توشراتّا إلى آمُونْحُوتَب أدلّة على أن الفرعون كان يرسل إلى واشوكّاني عاصمة ميتّاني وفداً بقيادة مصري اسمه (ماني)، ينقل إلى توشراتّا رغبة الفرعون في الزواج من أميرة ميتّانية، فهل يُعقَل أن الفرعون لم يكن يرسل مع ماني رسالة فيها هذا الطلب؟ وقد قال جِرْنُوت فيلْهِلْم بشأن المصاهرة بين توشراتّا وآمُونْحُوتَب: “تلك المصاهرة تمّت بعد سبع دَعوات؛ أي بعد مباحثات طويلة”([1]). فهل من المعقول أن هذه الدعوات السبع كانت تتمّ بلا رسائل من الفرعون إلى الملك الميتّاني؟

لا شكّ في أن ثمّة رسائل عديدة من الفراعنة إلى ملوك ميتّاني، وإن عدم وجودها في المصادر يرجع إمّا إلى أن جميعها تلفت، وهذا احتمال بعيد. وإمّا أنها موجودة لكن لم تُترجَم، وإمّا أنها تُرجمت لكن لم تُنشَر، وهذا في حدّ ذاته أمر مثير للتساؤل. إن نشرها سيلقي مزيداً من الضوء على الأحوال السياسية في الشرق الأوسط حينذاك.

الملاحظة الثانية: يبدو من الرسائل المنشورة أن الفراعنة كانوا يطلبون الزواج من أميرات ميتّانيات، ولا نجد في المصادر أن ملكاً ميتّانياً طلب الزواج من أميرة مصرية، أو أنه تزوّج من أميرة مصرية، فما تفسير ذلك؟

لعل السبب هو اعتقاد المصريين القدماء بأن الإله الأعلى (رَعْ) إله الشمس نَصَب ابنه ملكاً على مصر، وأن الفراعنة من نسله، ولذلك اتخذ الفرعون لقبَ (ابن رَع)، وكان الفراعنة يرفضون تزويج أخواتهم أو بناتهم أو أيّة أميرة من الأسرة المالكة من أيّ ملك أو أمير غير مصري([2]). ولا ريب أن ملوك ميتّاني كانوا يعرفون هذا الاعتقاد المصري، ولم يرغبوا في إحراج الفرعون بمطلب يتناقض مع العقيدة المصرية، ويستحيل تحقيقه.

الملاحظة الثالثة: دام زواج الفراعنة من الأميرات الميتّانيات ثلاثة أجيال، وأحياناً كان الفرعون الواحد يتزوّج أميرتين ميتّانيتين، فقد تزوّج آمُونْحُوتَب الثالث أختَ الملك توشراتّا الثاني، ثمّ تزوّج ابنته، ولو كان الهدف من هذه الزيجات سياسياً فقط كان يكفي الزواج من أميرة ميتّانية واحدة. ونعتقد أن كثرة زواج الفراعنة من أميرات ميتّاني يرجع في الغالب إلى جمالهنّ وتميّزهنّ بذوق وسلوك حضاري راق. وقد أكّد توشراتّا في رسالته أن ابنته ستُسعد الفرعون ” وأعطيتُ أخي زوجةً تُبْهِج قلبَه”([3]).

وجدير بالذكر أن المصريين الأصليين شعب أفريقي، يغلب عليهم اللون الأسمر، ويُعَدّ اللون الأبيض والأشقر عندهم ميزة جمالية، ويبدو أن النساء الحوريات كنّ يتميّزن بالجمال، وخاصّة اللون الأبيض والأشقر، وما زال هذا النمط من الجمال شائعاً بين الكُرديات، وليس مستبعَداً أن تكون صفة (حوريّة) في الثقافة العربية، والتي تعني (الفاتنة) و(جميلات الجنّة)، مأخوذةً من صفة النساء الحوريات.

الملاحظة الرابعة: يبدو توشراتّا عميق الإيمان بالآلهة الحورية، وبأنها قادرة على الشفاء من الأمراض، وأن آلهة الحوريين ليسوا متعصّبين لشعبهم، وأنهم رحماء بالشعوب الأخرى أيضاً، ويقدّمون الرعاية والشفاء لكل محتاج، لذلك أرسل توشراتّا الإلهة الحورية شاوُوشْكا Shawushka إلى مصر لشفاء الفرعون آمُونْحُوتَب من مرض أصابه، وكانت شاوُوشْكا من كبرَيات آلهة الحوريين، وكانت إلهةَ الحبّ والحرب، وقد أُطلق عليها اسم الإلهة الميزوپوتامية (عَشْتار)([4]).

ويتّضح من رسائل توشراتّا أيضاً أنه شديد الاحترام للإله المصري الأكبر (آمون) إله الشمس، ويصفه بصيغة (سيّدي)، ولم يكن غرضه من إرسال شاوُوشْكا منافسة الإله آمون، ولا الانتقاص من قدراته. ولا يخفى أن كل شعب يتصوّر إلهه وفق ثقافته وذهنيّته ورؤيته للوجود والكون، وإن موقف توشراتّا دليل على الانفتاح الديني عند الحوريين، وعدم نظرتهم بعدائية إلى آلهة الشعوب الأخرى، وكانت هذه الرؤية المنفتحة سائدة في معظم أطوار التاريخ الكُردي، ولم يصبح الكُرديّ معصّباً دينياً وعدوانياً إلا بعد وقوعه تحت تأثير الديانات الدخيلة على المجتمع الكُردستاني.

الملاحظة الخامسة: توشراتّا لطيف جدّاً في خطابه للفرعون، ويستخدم عبارات غير رسمية (أخي، صديقي، صهري الذي أُحبّ)، ويريد الاطمئنان على الفرعون وأسرته والأمراء، وعلى خيوله وعرباته الحربية. ومن المحتمَل أن الميتّانيين كانوا يزوّدون الجيش المصري بالخيول والعربات الحربية، لشهرة الحوريين في هذا المجال، وقد برز منهم كِيكُّولي Kikkuli، مدرّب سلاح الفرسان والمركبات في الجيش الحثّي([5]).

إن هذا الخطاب غير الرسمي دليل على أن العلاقة بين توشراتّا والفرعون كانت حميمة جداً، وكان توشراتّا راغباً في الحفاظ على تلك العلاقة، ليضمن استمرار التحالف بين مملكة ميتّاني ومملكة مصر، وبذلك يضمن عدم تجدّد الصراع بين المملكتين على سوريا، ويضمن أن مملكة مصر القوية ستكون عوناً له ضدّ اعتداء ملوك الحثّيين، وحينذاك كان الحثّيون يستغلّون كل فرصة لغزو مملكة ميتّاني واحتلالها.

الملاحظة السادسة: يبدو توشراتّا في رسائله محبّاً للسلام، إنه يتمنّى في رسالته ألاّ يكون له عدوّ، لكنه يبدي استعداده لصدّ كل عدوان على بلاده وعلى مصر، يقول في رسالة له: “ويسود في بلادنا السلام، أتمنّى ألاّ يوجدَ عدوٌّ لأخي، ولكن إذا ما حصل أن تغلغل عدوٌّ لأخي في بلاده فليرسلْ إليّ خبراً، وسوف تكون البلادُ الحورية، والمدرّعاتُ والأسلحةُ وغيرها، تحت تصرّف أخي لمواجهة العدوّ. من ناحية ثانية إذا ما وُجد عدوّ لي- وأتمنّى ألاّ يوجد- فسأرسل إلى أخي خبراً، وسوف يضع أخي البلادَ المصرية، والمدرّعات والأسلحة وغيرها، مما يخصّ صديقي تحت تصرّفي”([6]).

هذا النهج السلمي كان سائداً في معظم عهود تاريخ الكُرد وأسلافهم، وكانت الأمّة الكُردية في معظم عهود تاريخها أمّة دفاع عن النفس berxwedan، لا أمّة غزوات واحتلال êrișvan، وما زالت على هذه الحال إلى يومنا هذا.

الملاحظة السابعة: يطلب توشراتّا من فرعون ذهباً كثيراً، ويكرّر الطلب، وكانت مصر تستخرج الذهب في مناجم بلاد النُّوبّة، وقد طلب توشراتّا بلباقة أن يرسل له الفرعون تمثالاً لابنته العروس من الذهب، وتمثالاً آخر من العاج([7]). قال جِرْنوت فيلهِلْم: “رجاءُ تُوشْراتّا المتكرّر تزويدَه بذهب أكثر هو ذو علاقة بعزمه على بناء ضريح (في الحورية: كَرَشْك) لجدّه أَرْتَاتَاما الأول، وأن تأكيده على الاهتمام بالسَّلف الملكي يرجع إلى حرصه على إزالة التشكيك بشرعية حكمه”([8]).

ونعتقد أن ثمّة سبباً آخر، هو شغف بعض زعماء الكُرد منذ القديم بالأبّهة والفخامة وحياة الترف، والأمثلةُ كثيرة، منها فخامة أَگْباتانا (آمَدان/هَمَدان) عاصمة ميديا في عهد الملك الأوّل دَياكو، وانغماسُ الميديين في الترف خلال عهد الملك الأخير أَزْدَهاك، فقضى عليهم الفرس، وانغماسُ الملك الدُّوسْتِكي نَصْرُ الدولة وحاشيته في حياة الترف والبذخ، فقضى عليهم التُّرك السَّلاجقة.

والحقيقة أن هذه واحدة من السلبيات في الشخصية الكُردية، وكانت في معظم الأحيان سبباً لظهور التناقضات والصراعات والهزائم واحتلال كُردستان. وقد حلّلناها في كتابنا (الشخصية الكُردية: دراسة سوسيولوجية).

الأربعاء 6 – 5 – 2015

توضيح:

يقوم الصديق الأستاذ مصطفى رشيد بترجمة حلقات هذه السلسلة إلى الكُردية بالحرف اللاتيني، ونشرها، فله الشكر الجزيل.

المراجع:


[1] – جرنوت فيلهلم: الحوريون، ص 64.

[2] – د. إمام عبد الفتاح إمام: الطاغية، ص 29. جِرْنُوت فيلْهِلْم: الحوريون، ص 76. توفيق سليمان: دراسات في حضارات غرب آسية القديمة، ص 277.

[3] – جرنوت فيلهلم: الحوريون، ص 70 – 73.

[4] – فاضل عبد الواحد علي: من سومَر إلى التوراة، ص 158.

[5] – عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، ص 473.

[6] – فاضل عبد الواحد علي: من سومَر إلى التوراة، ص 158.

[7] – فاضل عبد الواحد علي: من سومر إلى التوراة، ص 158.

[8] – جرنوت فيلهلم: الحوريون، ص 73.

 

تُتاح هذه الصورة أيضا في: العربية

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Copyright © 2021 by Lalish Media Network .   Developed by Ayman qaidi